لم يخترع الألماني غوتنبرغ الآلة الطابعة، فلقد اخترعها قبله الصينيون بـ1000 عام تقريباً، لكن لغتهم التي حوت آلاف الحروف لم تُسعفها طريقة الطباعة القديمة لإنتاج كميات كبيرة من الكتب. إلا أن غوتنبرغ طوّر طريقة صناعة الآلة الطابعة، حيث استخدم قطعاً معدنية لحروف الطباعة بدل القطع الخشبية التي استخدمها الصينيون، وأسعفته حروف لغته القليلة لطباعة كميات كبيرة من الكتب. لم يكن الأوروبيون في ذلك الوقت شعوباً مثقفة، إلا أن انتشار الكتب – بسبب الطابعة – أصبح ظاهرة أثارت فضول الناس، فأقبلوا يتصفحون ما فيها؛ وخلال سنوات، ازداد الطلب على شراء الكتب حتى إنها كانت تُباع وهي لم تخرج من المطبعة بعد، وأخذت الأفكار تسافر بين الفلاسفة والمفكرين والعلماء في أوروبا بسرعة كبيرة، ما أعطى الباحثين فرصة للاطلاع على أعمال بعضهم بعضاً، ونقدها وتطويرها. هنا يكمن إنجاز طابعة غوتنبرغ، وهو دفعها بالعقل الأوروبي إلى عصر النهضة بسرعة هائلة، فمكنته من مواجهة الخرافات الشعبية والأساطير الدينية بعد أن أصبح العلم صمّام العقل، فأدرك الإنسان أن البراكين لا تثور بسبب غضب الإله، والأرض لا تنبت بسبب رضاه، والناس لا تصاب بالأوبئة لأن الشياطين حلّت فيها، بل هناك تفسيرات علمية لكل ذلك.
وفي مجتمعاتنا الشرقية، اليوم، هناك من لايزال يؤمن بالخرافات ويتمسّك بجهله، فكل أسبوع تصلني أكثر من رسالة من القراء والمتابعين، الذين يقولون إن هناك أدلة على أن الأرض مسطحة! قال لي صديق إن هؤلاء الناس يحتاجون إلى مصحة عقلية، قلتُ له: «لا.. يحتاجون إلى إنارة عقلية»، وهذا ما تقوم به مؤسسة دبي للمستقبل، التي أخذت على عاتقها نشر المعرفة في العالم العربي بطريقة سلسة وجذابة. فقبل أيام كنت أقرأ تقرير استشراف المستقبل، الذي أعدته المؤسسة مع مجموعة من الخبراء في مختلف المجالات، كالطاقة والصحة والتعليم والنقل وغيرها، تحدثوا فيه عن أبرز التطورات التي ستُقبل عليها البشرية في المستقبل القريب. عندما يقرأ أحدنا التقرير يشعر بأنه في ذيل الحضارة حقاً، غارقٌ في صراعاته العنصرية، مهمومٌ بمقتنياته المادية، ويثور في «السوشيال ميديا» لأتفه القضايا، وهو لايزال لا يعرف كيف يقرأ تعليمات استخدام دواء الكحة!
إن مؤسسة دبي للمستقبل، التي تنضوي تحتها مؤسسات ومبادرات عدة؛ كمتحف المستقبل، وأكاديمية دبي للمستقبل، وغيرهما، قادرة على أن تدفع بالعقل العربي إلى عصر تنوير جديد، ليس فقط من خلال المحتوى العلمي الذي تقدمه، بل أيضاً من خلال مبادراتها الحضارية كمبادرة Dubai 10X، التي تسعى الحكومة من خلالها إلى تشجيع مؤسساتها لتبتكر وتُطبق في دبي اليوم ما سيتم تطبيقه من أفكار وتقنيات في مدن العالم بعد 10 سنوات؛ لتكون دبي متقدمة عليهم بـ10 سنوات. وهناك أيضاً «مُسرّعات المستقبل» التي تقوم بربط كبار الشركات العالمية والمؤسسات المحلية؛ بهدف إيجاد حلول لمشكلات معينة، أو تطوير خدماتٍ ما بطرق مبتكرة. ومن أجمل مبادرات المؤسسة استراتيجية دبي للطباعة الثلاثية الأبعاد، التي تهدف إلى طباعة 25٪ من كل المباني الجديدة في دبي بحلول عام 2025، باستخدام تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد!
المتابع للتطورات الحضارية، يدرك أن العلوم والتكنولوجيا هي السمات الطاغية في القرن الحادي والعشرين، فلا مكان للعواطف والخرافات والأفكار البائدة، وأي أمة تريد أن تنهض بنفسها عليها أن تُسارع إلى الاستثمار في المستقبل، قبل أن تدعس عليها آلة الحضارة التي تسير بسرعة هائلة.
لكي نغير واقعنا علينا أولاً أن نغير تفكيرنا، ولكي نفعل ذلك، نحتاج أن ننسى كثيراً مما تعلمناه، ونبدأ من جديد.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-nfH