تستحوذ حوكمة الشركات أهمية كبرى نظرا لتعاظم دور شركات القطاع الخاص في الاقتصاد، ولا تنبع هذه الأهمية من كونها قضية أخلاقيه فقط، بل باعتبارها عملا أساسيا ومهما، لاسيما فيما يتصل بمنشآت الأعمال، ومن ثم فإن التحدي الذي يواجه الشركات اليوم هو ضرورة التحرك لتفعيل الحوكمة وتطبيقها بالطريقة الصحيحة وليس بانتظار فرضه من الجهات الرسمية. .
وشهد العقد الماضي اهتماما متزايدا من قبل الحكومات والمؤسسات الدولية بما يسمي بـ ” حوكمة الشركات” وأصبح مصطلح الحوكمة حديث الناس المتخصص منهم ورجل الشارع العادي، وبدأ الاهتمام بوضع معايير للحوكمة بعد تفجر الكثير من القضايا والمشكلات المرتبطة باستغلال السلطة وتدني الشفافية وعدم الإفصاح عن الأوضاع المالية لكثير من المؤسسات، ولفظ حوكمة المؤسسات مصدره المصطلح الانجليزي corporate governance ويمكن تعريفه بأنه ” مجموع الآليات التنظيمية التي من شأنها الحد والتأثير على قرارات المسيرين، والتحكم في توجهاتهم وتبين مجال صلاحياتهم ” .
ويرى بعض الخبراء أن مفهوم حوكمة المؤسسات” يشير بشكل عام إلى مجموعة القوانين والقواعد والمعايير التي تحدد العلاقة بين إدارة الشركة من ناحية والممولين وأصحاب المصالح من ناحية أخرى، بحيث يضمن الممولون حسن استغلال الإدارة لأموالهم وتعظيم ربحية وقيمة أسهم الشركة في الأجل الطويل، وتحقيق الرقابة الفعالة على الإدارة “، وتطور ليتجاوز مجرد العلاقة الضيقة بين المسيرين والمساهمين، لأن الملاك ليسو هم الطرف الوحيد الذي يقوم بالرقابة بل أضف إلى ذلك الدائنين والزبائن والأجراء والسلطات العمومية … أو ما يسمى بأصحاب المصالح Stakeholders، وعلى هذا الأساس… حوكمة المؤسسات بمعناها الأوسع يشمل كل النظام الذي يسمح لمجموع أصحاب المصالح من مراقبة توجهات المؤسسة والسير بها إلى النجاعة لتحقيق الأهداف وباستعمال وسائل وآليات محددة.
في السنوات الأخيرة تعالت الهمهمات بين مؤسسي وأعضاء مجالس إدارات الشركات المساهمة العامة في معظم دول العالم مرددة نغمة الحاكمية الإدارية والشفافية المطلوبة من أعضاء الإدارة التنفيذية لتلك الشركات خصوصاً في ظل الانفتاح على الأسواق المالية وبدء بزوغ نجم المؤسسات المصرفية الإسلامية ودورها في تنمية المجتمع، بالإضافة إلى تحول الكثيرين من أصحاب الأموال والأعمال المسلمين وغيرهم إلى العمل مع تلك المؤسسات بعد اكتشاف مصداقيتها منذ إنشاء بنك دبي الإسلامي كأول بنك إسلامي في العالم قبل ثلاثين عاما.
واحدث هذا الاكتشاف طفرة عالمية كبيرة. ونمت المؤسسات الإسلامية إلى اكثر من 270 مؤسسة مالية واستثمارية تدير تريليون دولار أمريكي، إلا أن الطبيعة الهيكلية لتلك المؤسسات مختلفة تماما عن المعمول به لدى الشركات والمؤسسات المالية التقليدية والتي حددتها التشريعات القانونية الموروثة من الحقب الاستعمارية القديمة للدول الإسلامية كالنظام الانجلوسكسوني أو النظام اللاتيني، ما دعا الكثيرين إلى المناداة بضرورة بناء القواعد القانونية التي تحمي هذه المؤسسة الإسلامية وتضع لها القواعد التي تمكنها من السير جنبا إلى جنب مع المؤسسات المالية الأخرى وتضمن في المقام الأول حقوق المساهمين والمستثمرين لدى تلك المؤسسات.
حوكمة الشركات من منظور شرعي
جاءت الأنظمة والتشريعات بحوكمة الشركات من أجل تنظيم وترتيب أمورها، ويعد حفظ الحقوق من أهداف الحوكمة الأساسية وغيرها من المبادئ النبيلة، ومما هو معلوم أن الدين الإسلامي يدعم كل ما هو وسيلة إلى الخير شرط ألا تخالف الشرع فإن الغايات لا تبرر الوسائل، ويكاد يجمع الباحثون حول حوكمة الشركات أنها تقوم على أربعة أسس رئيسة هي العدالة وتحديد المسؤولية بدقة والمساءلة والمحاسبة وأخيرا الشفافية (الصدق والأمانة)، وإجمالا، فإن هذا المعنى للحوكمة يتفق مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية في حفاظها على المقاصد، فالمال يعد أحد المقاصد الخمسة التي يجب حفظها وحمايتها بكل الطرق والسبل المشروعة، كما أننا لسنا في حاجة إلى التأكيد على موقف الإسلام من قيم العدالة والصدق والأمانة والحث عليهما بشكل عام.
وتعد العدالة من أهم الأسس التي تقوم العقود الشرعية عليها، وذلك ما نجده في آيات عديدة في القرآن الكريم منها قول الله عز وجل:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ”، وقوله تعالى:”وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ”، وقوله سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ”.
ومن المنظور الإسلامي، فإن تحديد المسؤولية بدقة أمر مهم وقد حددتها الشريعة بشكل دقيق، ويساند ذلك عند الفرد المسلم الدافع الديني لأن أيّة مسؤولية يتحملها المسلم بناء على تعاقد مع غيره لا يكون مسؤولا فقط أمام من تعاقد معه إنما هو مسؤول أولاً أمام الله، عزّ وجل، الذي أمر بالوفاء بالعقود.
وأما المساءلة فقد وضعت الشريعة الإسلامية في تنظيمها لعقود المعاملات أسسًا لمحاسبة كل طرف على مدى التزامه بأداء ما عليه من واجبات في العقد, وقررت عقوبات حاسمة لمن يخلّ بها، والأمر لا يقتصر على الجزاء الشرعي أو الإداري أو القضائي، بل يستشعر المسلم الجزاء من الله، عز وجل، بخاصة في الحالات التي يتمكّن فيها الإنسان من الإفلات من رقابة البشر والعقوبات الإدارية.
والشفافية وتعني الصدق والأمانة والدقة والشمول للمعلومات التي تُقدَّم عن أعمال الشركة للأطراف الذين لا تمكنهم ظروفهم من الإشراف المباشر على أعمال الشركة التي لهم فيها مصالح للتعرف على مدى أمانة وكفاءة الإدارة في إدارة أموالهم، والمحافظة على حقوقهم وتمكينهم من اتخاذ القرارات السليمة في علاقاتهم بالشرك.
الحوكمة ومعايير مجلس
الخدمات المالية الإسلامية
تبنى مجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا مبادئ الحوكمة الصادرة عن كل من منظمة مجلس التعاون الاقتصادي والتنمية ” اوسيد” ووثيقة لجنة بازل حول “تعزيز الحوكمة في المنظمات المصرفية” وبنى عليهما مجموعة من المبادئ الإرشادية التي يجب أن تلتزم بها إدارة المؤسسة المالية الإسلامية تجاه أصحاب المصالح.
وأصدر معيارا لحوكمة المؤسسات المالية الإسلامية في ديسمبر 2006، تحت ما يسمى بـ (المبادئ الإرشادية لضوابط إدارة المؤسسات التي تقدم خدمات مالية إسلامية)، وقد الزم هذا المعيار المؤسسات المالية الإسلامية إما أن تؤكد التزامها بنصوص هذه المبادئ الإرشادية أو تعطى شرحا واضحا لأصحاب المصالح عن أسباب عدم التزامها بهذه المبادئ.
وحدد مجلس الخدمات المالية الإسلامية المبادئ للحوكمة من اهمها يجب على مؤسسات الخدمات المالية الإسلامية أن تضع إطار لسياسة ضوابط إدارة شاملة تحدد الأدوار والوظائف الاستراتيجية لكل عنصر من عناصر ضوابط الإدارة والآليات المعتمدة لموازنة مسؤوليات مؤسسات الخدمات المالية الإسلامية تجاه مختلف أصحاب المصالح.
يجب على مؤسسات الخدمات المالية الإسلامية أن تتأكد من أن إعداد تقارير معلوماتها المالية وغير المالية يستوفي المتطلبات التي تنص عليها المعايير المحاسبية المتعارف عليها دوليًا – وتكون مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها والتي تسري على قطاع الخدمات المالية الإسلامية وتعتمدها السلطات الإشرافية في الدولة المعنية.
يجب على إدارة المؤسسة المالية الإسلامية تشكيل لجنة مراجعة تتكون مما لا يقل عن ثلاثة أعضاء يختارهم مجلس الإدارة من أعضائه غير التنفيذيين يكونون حائزين على خبرات مناسبة وكافية في تحليل القوائم المالية والمستندات المالية.
ويجب على المؤسسات الإقرار بحقوق أصحاب حسابات الاستثمار في متابعة أداء استثماراتهم والمخاطر ذات العلاقة، ووضع الوسائل الكافية لضمان المحافظة على هذه الحقوق وممارستها، وأن تتحمل مسؤولية ائتمانية تجاه أصحاب حسابات الاستثمار بصفتها مضاربا في أموالهم، مع الإفصاح والشفافية عن المعلومات في الوقت الملائم.
ويبقى تنوع الآراء الشرعية من الخصائص الدائمة لقطاع الخدمات المالية الإسلامية، ويجب أن يحصل المراجعون الداخلي والمراقبون الشرعيون على التدريب اللازم والمناسب لتحسين مهاراتهم من حيث مراجعة مدى الالتزام بالشريعة.
كما يجب إصدار وتشجيع مبادرات التنسيق بين الفتاوى الشرعية حيث أن هذا القطاع خصوصا والأمة عموما يستفيدان من الفهم المشترك والتعاون بين علماء الشريعة، والالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها المنصوص عليها في قرارات علماء الشريعة للمؤسسة. ويجب على المؤسسة أن تتيح إطلاع الجمهور على هذه الأحكام والمبادئ.، والشفافية في اعتمادها تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها الصادرة عن علماء الشريعة للمؤسسة، ويجب على المؤسسة الالتزام بقرارات الهيئة الشرعية المركزية أو الإفصاح عن سبب عدم الالتزام.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-FY