زينب السعود / الأردن
***************************
في ظل حديث الأرقام المرتبط برؤوس الأموال ونمو الأسواق واستدامة التنمية التي تعنى بعالم المال والأعمال المسيطر على العالم ، هل يمكننا أن نتحدث عن استدامة موازية تنطلق من الحروف لا من الرقمية التي بدأت تبسط جناحيها على حياتنا المعاصرة ؟ ربما يكون الاستثمار في الثقافة من أكثر المواضيع التي تجبرنا طبيعة العصر المتسارعة والتي تحث خطاها في عالم الذكاء الاصطناعي للكتابة عنها وطرحها للنقاش وإيلائها عناية بالغة .
ومصطلح الاستثمار يستوجب وجود منتج ما يتم استخدامه لجلب منفعة ونمو في الحركة الاقتصادية للدول فهل يمكننا اعتبار المنتج الثقافي يخضع على نحو ما لفكرة الاستثمارية النفعية التي تشارك في رفع أسهم البناء والتنمية المعتمدة لقياس مدى التقدم والنمو؟ تؤكد اليونسكو على ضرورة أن يكون” المنتج الثقافي” حاملا للهوية والقيم والدلالات ، وهذا يحيلنا إلى التعريف الدارج للثقافة الذي يجعلها مجموعة السمات الروحية والمادية والفكرية التي تميز مجتمعا بعينه ، وهذا التعريف يسمح لنا اعتبار الثقافة حركة وعي وفكر تستند إلى ركائز من منظومة القيم والعادات النابعة من الدين أو مما اصطلح عليه في الفكر الاجتماعي ، وهي بهذا المعنى تستوجب انفتاحا على العلوم والمعارف السائدة في المجتمعات الأخرى ، انفتاحا يضيف قيمة بناءة جديدة تدعم منظومة الفكر الخلاق والأخلاقي الذي تقوم عليه المجتمعات.ومن المعروف أن الاستثمار الثقافي لا يمكن إخضاعه لحسابات العائد والمردود المباشر ، كما لا يمكن القول بإنه استثمار ينقاد لمعيار أسواق المضاربة المالية مثلا كباقي نواحي الحياة من زراعة وتجارة وصناعة . ومع ذلك فإن الثقافة تسير جنبا إلى جنب مع المال في عصرنا الحاضر ، فالنشر أصبح صناعة منتجها الكتب على اختلاف المضامين . وهذا واقع ملموس في المجتمعات العربية خاصة وقد نلاحظ وجود ما يسمى بالنشر التجاري الذي لا يكترث بجودة المنتج بقدر ما يهمه المردود المادي. على أن الاستثمار الذي يتناوله المقال هو الاستثمار المستند إلى الكتب والمخطوطات والفنون الكتابية المختلفة ، الذي يكون العائد فيه فكريا وعقليا ونفسيا، يهدف إلى غرس المفاهيم الصحيحة وإعادة ربط الجيل بتراثه الفكري وهذا يحتم العودة إلى إحياء الرابطة وتمتينها بين الجيل ولغته الأم . وليس أنفع لمجتمعاتنا العربية والإسلامية من إعادة طرح المنتج الثقافي بقوالب لغوية متينة وإبداعية تمنحها اللغة العربية لمحبيها ومتقنيها بلا مقابل ، وتمكنهم من استعراض تفننهم بما تتصف به من رحابة وتوسع
في الألفاظ والاشتقاقات التي يمكننا اعتبارها قدرة أصيلة في لغتنا على “العولمة “الثقافية بمنظور معين. والملمح المهم للاستثمار في الثقافة المكتوبة المعنية بالأدب والشعر والنقد والدراسات الاجتماعية والفلسفية وغيرها ، أن تعامل كمنتج ثقافي منتم لهويته . فالمحافظة على هوية الثقافة العربية والإسلامية هو ما يضمن تميزها وتفردها ، ويجعلها تسير على خطى ثابتة ومباينة للغث من السمين في مقارباتها من ثقافات الأمم الأخرى .
والحديث عن الاستثمار في الثقافة يمد حبال الصلة وثيقة مع منظومة التعليم ، فالعلاقة الأولى بين الفرد والكتاب تنتظم في مسيرة التعليم ، وقد قال طه حسين أن التعليم أساس الثقافة وقبله بقرون عديدة أشار الجاحظ أن معرفة الإنسان قدره تعينه على معرفة خصمه ، واللغة والفكر هما أكثر ما يُعرف بها الإنسان .
الاستثمار الثقافي قد لا يجلب لنا أرصدة في المصارف ، ولا يُعلي أسهم المضاربات في بورصة الأوراق النقدية ، ولكنه حتما يرسخ قيمنا وهويتنا في عقول الأجيال الحالية والقادمة ، في عالم يسعى إلى تمييع المفاهيم وخلطها في زجاجة واحدة لتصبح محلولا لزجا سميكا لا يرقى بعقل ولا تسعد به الذائقة .
المصدر : https://wp.me/p70vFa-IW4