في قرية يبنى قضاء الرملة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط،
في احد أيام 1931م، ولد محي الدين الجمل
كأني بهذا الرجل ( محي الدين الجمل ) سمع أقوال الحكماء واكتشف سر الحياة وإكسير النجاح وذهب إلى حيث أراد، يقطع المسافات عبر البحار والمحيطات ويجتاز مواقع الضعف الإنساني حيث العائلة والوطن والوداعة والحب والأماني، ركب الصعاب ونأى بنفسه عن صغائر الأمور وارتحل في سفر طويل عبر معارك الحياة قوياً صبوراً يأنف الانصياع لسود الليالي وهوج الرياح والأمواج، صانعاً من سوء أحواله وفقر ذات يده، إنساناً حراً أبيا يوجد حيث عظائم الأمور تصنع، ولم يخضع للأهوال بل ركبها فارساً لا تلين مواقفه ولا تضعف قناته.
« محي الدين الجمل كان يحمل بين جنبيه منذ طفولته أو صباه المبكر روح المغامرة الخطيرة وعشق شواهق الذرى فكان كفؤا صبوراً كل خطوة له وكأنه يقطع جبلاً ويجتاز سهلاً عريضاً.
هذا الفتى كان يساعد أباه وأمه وإخوانه ويقوم بأي عمل شريف راضياً طيب النفس متطلعا نحو الخطوة الأخرى بقوة، محفزاً بالشباب الآتي والأيام الحبلى بالمجد الذي أتى طائعا في نهاية المطاف، وكأنه الهدية المثلى لقصة كفاح يصعب وصفها، وتراني أكتب بعضاً من قبسها لتكون رحلة عمر مليء بالتصدي والكفاح وكأن القدر قد احترم إرادة هذا الطفل الفتى الشاب الشيخ فصار مثالاً للمكافحين ذوي الإرادة الفذة وصانعي المستقبل ومروضي الأيام والذين قطعوا بسيوفهم على الزمن صعوبة النهج و وعورة الطـريق.
المحلل الحصيف لا يملك إلا أن يصادق الأيام التي عاشها “محي الدين الجمل” ، ويتمنى لو انه ترك العنان لقلمه ليكتب سفراً جميلا لقصة تصورها خياله الخصب الثري اخرج للقارئين والمطلعين فيما بعد.
ملحمة هوميرية
( ملحمة هومرية ) يفخر بها اليونانيون العظماء خلال أجمل مرحلة من مراحل تاريخهم لكنه وللأسف، عندما أكتب ألمح إضاءات هائلة ووهجاً ينير القلوب الكلمى والنفوس المترددة من قصة نجاح حقيقية لرجل حقيقي لإنسان رائع الصفات قوي العزمات سافر عبر الزمن منذ ثلاثينيات القرن العشرين مرتحلاً يحمل أوجاعه في ضيق ذات اليد، جرح الوطن، قلة الحيلة وانفراد الأحداث به تذروه وتقلبه وتعذبه في رحلة العمر وهو يمشي ويمشي ويعدو ويصعد ويطير إلى حيث الذروة من نبيل الأهداف وحلاوة النوال كاتباً اسمه بين العمالقة الأحرار المجاهدين جهاداً أكبر، المتربعين على قمة الانجاز.
أقول لأخي « محي الدين ، دعني استرسل بين ثنايا أحداث حياتك أمسها مساً خفيفاً يحمل حلاوة القلم المشتاق لتاريخ يصنعهُ أمثالك، ذوي الإرادة الخلاقة الذين كتبوا أسماءهم حيث حلوا بماء الذهب وتميز الرجال الذين كاثروا التعب والكد وصنعوا الفرص الكبرى من ذرات صغيرة من مواقف أكثر من مادية صادفت طريقهم الصاعد الذي يأبى الخضوع إلا للقلة القليلة من الرواد مساهمين في صنع حضارة الإنسان عبر مجرة الألم وصبر أيوب.
أرض خصبة بالرجال
لا غرابة أن نجد رجلاً مثل « محي الدين ، فقد تخرج من رحم ارض خصيبة بالرجال أبية قوية تصنع من الأطفال أكاليل نصر قادم فوق ثراها، فلسطين هي فلسطين ولا عجب نثرت فوق أديم هذا الكوكب رجالاً ولا أروع نضالاً مستديماً على التاريخ لن يقف إلا حيث الهدف، حرية الأهل ومُحرر الوطن وعظيم الأماني، رجالٌ تعملقوا وتعلقوا بالنجوم فاقتربت واقتربت حتى اللصوق على صدور هؤلاء المناضلين شيئاً فشيئاً تحقيقاً للمنجزات.
صاحبنا رأى النور قريباً من أمواج المتوسط الذي تكاخى هو وفلسطين حيث تدثر بحب الوطن وبحنان الأم وتزمل بعد رحلة طفولة صعبة بمكنونات قلبه الملتاع هياماً وحباً لأرض القداسة والتي رماها الله بأفظع تجربة في التاريخ الحديث (يبنى) هي البلدة التي عانق ترابها وجه هذا الطفل البار فبدأ قصة عشق طويلة.
مؤامرات سرقة الوطن
فتح الطفل عينيه على سوء نوايا الغير حيث كانت المؤامرات للمستعمر الدخيل تُصنع وتمدد وتكبر ويعظم خطرها على أرض الأنبياء وأهلها الذين تذرعوا بسيوفهم وبنادقهم واسترسلوا في مصارعة الأحداث العظام، لكن أسوأ التوقعات لم تمر بذهن أي واحد فيهم، فكانت النكبات القادمة أفظع وأكثر إيلاماً وأبشع تأثيراً على رحلة الشقاء الكبرى التي جعلت من هذا الشعب كبش فداء العالم الجديد كله بكل أديانه وأطيافه وثواره وبلدانه.
وعليه فليس من الغريب ان يكون هذا الوليد عصبياً نزقاً متوتراً كأن جسده لم يحتمل ما يعتل في صدره الصغير ولا في جوفه الذي سارع الأطباء إلى اكتشاف مشكلته اللاموجودة أصلا إلا في نفسه التي تضيق ذرعاً بالنوازع الغريبة عند معظم الناس، فآثر حب الناس والبعد عن عداوة أهل الشر وكأني به لا يريد بأحد شراً أبداً.
فتح عينيه فيما بعد على كلام الله فحفظه في كتاتيب البلدة ( يبنى ) ودرس فواصل الكلمة ومعنى الكتابة واكتشف نبع القول سنوات معدودات فقط، فكان الأهل يحتاجونه في المزرعة وكان يكتفي بالسماع من معلميه فقط وكانت مراجعته لدروسه غير ممكنة، ثم احتاج والده جهده بتجارته بالبرتقال الذي لطالما اشتهرت به فلسطين ثم تنحى أبوه عن هذه التجارة ليبدأ تجارة الحلال والتي جلبت عليه وظيفة أخرى أصعب من سابقتها، ولا بد أن مرافقة الأغنام تجعل في نفس الراعي سيداً لقطيعٍ صادق بسيط ودود، فيتعلم منه من حيث لا يدري.. صفات البساطة والحب والصدق حيث ان هم القطيع أن يصل إلى حقه الذي جعله الله له في الأرض، وكأني بنفس هذا الصبي ابن الثلاثة عشر ربيعاً تختزن بداخلها نوايا الشباب العذب الصلب ناشداً حقه في الأرض بالعيش بكرامة وبحبوحة واكتفاء ولو صعبت الطريق وشحت السماء وندرت أعشاب الأرض وكلأ السهول وصوت البارود اللعين فوق ربى فلسطين، فلا بد أن يرتحل لطلبها في حوض الأمازون في البرازيل ليأخذ حقه كاملاً غير منقوص خلال رحلة العذاب القادمة.
راعي أغنام
مهنة الرعي تخلق من صاحبها طول النفس وبراءة المسعى مع شظف الخدمة، لكن الصفاء الغريب يأخذ بتلابيب الذات الشفافة لهذا الإنسان لتصقل منه ذاتاً خاصة تحمل بذور الخير كله مع الإصرار وجلادة القلب وصلابة الموقف، وكل هذا هو جُل ما يحتاجه في المعركة مع الأيام القادمة وحيث لا يفيد إلا العمل ولا صديق إلا الساعد وذلك التاريخ المنذور للشقاء المـر قبل الشروق الوضاء لشمس الحياة وتفجر ينابيع الجوائز الكبرى في مقتبل الأيام.
سوف تكون أيام الراعي « محي الدين هي معصرة الخير والعطاء وجوائز العمل الخارج من صلب المراعي وحشائش فلسطين. وانتهى عهد الرعي بالغنم ليبدأ عملا مضنيا جافا في معسكر للعسكر الغريب الذي تهدر طائراته تزرع سماء فلسطين منذرة بيوم صعب غريب ونكبة رهيبة لم تحدث لشعب في العصر الحديث غير شعب « محي الدين الجمل ( الشعب الفلسطيني)، وكانت لقمة العيش صعبة وخطيرة كالرصاص الذي تلقيه الكائنات الحديدية وهي تطير منتثرة بغيوم فلسطين منذرة بتاريخ فلسطين بالقادم الرهيب، ولم يكن يدور بخلد الفتى هذا أي حلم قد يصل إلى هذه المأساوية الكارثية لشعب يحمله الظلم على الجلاء عن وطنه طريدا شريدا، يحمل الهم والغـم وثقوب الرصاص في صدور أبنائه وأملهم في يوم قريب مضيء يصنعه الإخوة العرب القادمون على الطريق يزرعون النصر في أرجاء الدنيا ويعود اللاجئون إلى حيث البيت الأغلى وظل الكرمة والزيتونة غير بعيدين من براق محمـد ومهبط جبريل.
أيام حبلى
لكن الأيام تتسارع وتحبل بأيام أكثر جلافة وأذى لا يوصف ليترك جيش الانجليز هذه المصنوعات العظيمة الأثر ( الطائرات، المدافع، الأسلحة الحديثة ) ويسلموها إلى المالك الجديد حيث منحوه صك الملكية وأنشاؤا وطناً لمن لا حق له فيه وانتزعوا وطنا من أهله منذ ألاف السنين بدعاوى غريبة وحيل ومؤامرات طردوا “محي الدين” ليعود إلى قريته الحبيبة ( حارة الرحلة) ” يبنى ” وسعى وثابر واستمرت معركة الحياة الصعبة وتشارك مع صديق له في مقهى يكسبان منه القليل، يعملون نهارا ويحرسون قريتهم ليلاً من عصابات لا ترحم وهجمات قاتلات ظالمات من عدو جديد طامع ناكر لكل مقولات الإنسان الطيب فوق ثرى فلسطين الجريحة والتي بدأت تلعق جراحها وتواري ثوارها قبورهم وهي في عجب.
استمر الغريب بالتقدم وتصاعد عدوانه حتى طال هذه القرية الوادعة يبنى، ليجد ” محي الدين” الطريق الوحيد هرباً إلى غزة هو ورفاقه الغير قادرين عل رد العدوان الغاشم الرهيب ؛ صارعوا البحر وصولاً الى غزة حيث ابتعدوا عن مسقط الرأس ومراعي الصبا ؛ صورها هو صغيرنا الفتى يكتسب قوته بقوة ذراعه وتصميمه على استعادة برتقال أهله الذي أصبح محرما عليه من المحتل والذي دفع معظم أصحابه أرواحهم ثمناً لكل محاولة الحصول على حقهم من ثمار أرضهم يبيعونه ومنه يتقاسمون.
وكانت مصر الكنانة، مصر التاريخ والعروبة قيد خطوات قليلات من مهجعه الجديد فعمل سائقا على إحدى العربات الصغيرة التي اشتراها بما توفر له من عرق الأيام والليالي، واستمر مسلسل الحياة وكفاحها الذي شهده ” محي الدين الجمل ” وثارت حرب هوجاء شرسة بدأت من قناة السويس في عدوان ثلاثي بغيض طال بسوطه ارض غزة التي تم احتلالها وبذلك جردت هذا الشاب من تعب أيامه ولياليه ومن مصدر رزقه ( سيارته الوحيدة ) التي صادروها لتصبح ملكاً للعدو.
لم يستسلم ” محي الدين” فشارك في الجهاد مع شعبه واستشهد من استشهد واعتقل من اعتقل وكان هو فيمن تم اعتقالهم وطال الاعتقال، لكن المجاهدين استطاعوا تحرير (300) من إخوانهم ومن بينهم كان المناضل “محي الدين” الذي قطع أياماً وليالي للوصول ودفاعا عن حريته كان ذلك الحدث في سنة ( 1957 ).
ودخلت قوات دولية إلى غزة وانخرط « الجمل في العمل معهم كسائق عرفوا أمانته وصدقه فأحبوه سواء من الفرقة البرازيلية أو الدنماركية أو النرويجية، وكلهم أرادوا صداقته وطلب خدمته لما رأوا منه من حسن الخلق وطيب الأداء، وكان أكثرهم منه قرباً وصداقة رئيس الفرقة البرازيلية.
ودرج ” الجمل” على الذهاب بهؤلاء القادة إلى القاهرة في عطلة نهاية الأسبوع، وعرفوا عنه كل شيء وعن العسرة في حياته وعن آاماله في السفر والكفاح خارج القطاع ورغم عدم وجود أي أوراق قانونية ثبوتية أهمها جواز السفر مع أخينا « محي الدين فقد وعده القائد البرازيلي أن يرسله إذا أراد إلى البرازيل على متن مركب يأتي كل ستة أشهر في رحلة ( استبدالية ) للفرقة البرازيلية، وهو أي “محي الدين” ليس بحاجة إلى جواز سفر وأية أوراق ثبوتية إلا أن عليه أن يتدبر أمره لدى وصول الأرض البرازيلية، ما كان يحمل هذا الشاب إلا إصراره وقوة أرادته وتحمله لكل صعب ليغير في مسيرة حياته الصعبة شيئاً ويحقق ذاته الطامحة إلى التصدي والكسب المشروع.
وكان أن وافق على هذا العرض شريطة موافقة أمه الحنونة التي أبت في البداية أن يبتعد صغيرها عن بلده وبعيدا عن حضن امه إلا أنها وافقت وأعطته زوادة وحيدة وهي عبارة عن دجاجة محشوة بالرز لتكون رفيقة بطنه الخاوي في رحلة لا يعرف نهايتها إلا الله.
في البرازيل وصل المركب أخيراً إلى ( ريو دي جانيرو ) عاصمة البرازيل الضخمة الجميلة وأصبح هذا الفتى في مواجهة مباشرة مع الحياة مع الفقر مع اللغة التي لا يعرفها، مع الواقع الجديد حيث لا صديق ولا رفيق، حزن وندم غير انه صادف أحد العساكر البرازيليين الذين كانوا قد عادوا من غزة وطلب منه ترتيب أمر عودته إلى فلسطين فأبدى هذا الصديق الموافقة على أن تتم على متن المركب التالي أي بعد عدة أشهر واقترح عليه الشاويش البرازيلي بالعمل في هذه الاثناء كسائق في منطقة غريبة عجيبة تعد وكرا للجريمة إذ افتقدت فيها عناصر الأمن والأمان حيث لا شرطة ولا حراسة ولا يد للقانون فيها.
كان الباص الذي عمل عليه هو مصدر رزقه وهو منزله ومقامه وأصبح الموز هو مصدر غذائه الوحيد لأنه قيد النوال بسهولة، وبدأ ( المهاجر العربي ) يتعلم اللغة البرتغالية بطريقته الخاصة، وساعدته السفارة المصرية هناك في الحصول على وثيقة ثبوتية شخصية فحصل على رخصة قيادة مركبة، وواصل رحلة الحياة بصعوبة لكن قلبه الكبير وتصميمه اللامحدود جعلاه قادرا على إنشاء جمعية خيرية فلسطينية كان يقودها من غرفة اجتماعات داخل الباص، وتعرف على أفراد من الجاليات العربية والفلسطينية ، إلى أن زار البرازيل وفد من منظمة التحرير الفلسطينية فسهل مهمتهم مع زملائه وتبرعوا للوفد ببعض المال وتمت دعوته بعد ذلك في سنة ( 1965) في زمن الرئيس (جمال عبد الناصر) لحضور المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي افتتحه جمال عبد الناصر بنفسه في القاهرة، وكان ” محي الدين ” على بعد خطوات من أهله وشاهدته والدته في التلفزيون فبعثت إليه طالبة حضوره حيث وصل أهله وتزوج خلال هذه الرحلة.
نفس وثابة
لم يطل به المقام في الوطن لان نفسه الوثابة تأبى الوقوف في وسط الطريق بل عليه السعي ومواصلة مشوار الحياة، عاد إلى البرازيل مع زوجته التي قبلت التحدي بصبر، وثابر على نفس الطريق.. مهنة النقل والسيارات التي يجيدها، حيث اشترى حافلة باص عن طريق التقسيط وسرعان ما تحسنت أحواله وأسس شركة حافلات مع شركاء برتغاليين واستأجروا قطعة ارض مناسبة ككراج لحافلاتهم في منطقة محجر قديم وكانت سنة ( 1967 ) قد أطلت برأسها على الدنيا حاملة كل الهموم لفلسطين وللعرب كلهم واشـــتعلت المنطـقة بالاســـتعداد للحــرب وصـحا ” محي الدين ” على نفسه بل صحت العروبة في صدره وتمثلت فلسطين المحررة في قلبه، فأسرع إلى نداء الوطن وباع كل ما لديه وسافر إلى حيث ارض المعركة ( مصر ) ومنها إلى غزة للمشاركة الفعلية في القتال ضد المعتديين وانفجرت الحرب وتمت الهزيمة الكبرى ووقعت غزة تحت الاحتلال مع ما وقع على غيرها من بلاد العرب.
وفي ظل ظروف مأساوية جديدة وفشل مشروعه في القتال والنضال لصالح تحرير الوطن ازداد الظلم وتعقدت الأمور في وجه كل المناضلين، عاد ” محي الدين الجمل ” إلى البرازيل حيث وجد أن الأحوال الاقتصادية قد ساءت ووصلت نسبة التضخم إلى أكثر من 100 %، فكان عليه أن يبدأ في رحلته الكفاحية في الحياة من نقطة الصفر، فعمل سائقاً مع صندوق النقد الدولي براتب لا يتجاوز ( 200 ) دولار شهريا لكن إيمانه بالله دفعه إلى تحدي الواقع.
وتشاء الأقدار أن يحدث عطل في سيارته ليدخلها إحدى الكراجات لإصلاحها، وبسبب أزمته النفسية وتقلب ظروف الحياة ضده في وسط أجواء التوتر النفسي صرخ بصاحب الكراج بلهجة التحدي بأنه ليس إنسانا هامشيا يمكن استغلاله، بل انه يستطيع شراء هذا الكراج ويقول كتبت إسمي وعنواني وأعطيته لصاحب الكراج رقم ضريبة الدخل وهاتف المنزل في تحد سافر وموقف قوي أمام إنسان تحداني.
وتفاجأت في صباح اليوم التالي بصاحب الكراج معتذراً عن موقفه وبأنه على استعداد لبيع الكراج بمبلغ ( 350 ) الف دولار على ان تدفع ( 50 ) الف مقدما والباقي على اقساط.
وجد صاحبنا محي الدين نفسه فيما يشابه الورطة، لكن تصميمه وقوة عزيمته مضى بالشوط إلى آخره، وتوجه إلى صديق برتغالي لاقتراض المبلغ منه، فعرض صديقه مشاركته في هذه الصفقة فوافق « الجمل دون أن يعرف أي منها طبيعة المحل وقيمته الفعلية وسرعان ما اكتشفا بان المحل هو عبارة عن وكالة سيارات ( ويلز ).
العمل ميكانيكيا
تمت الصفقة وبدأ يعمل فيه ميكانيكياً بينما كان يعمل شريكه البرتغالي بائعا لقطع الغيار. ثم لعبت الصدفة مرة أخرى حين دخلت شركة (فورد) إلى البرازيل كمصنعة للسيارات وقامت بشراء (ويلز) فأصبح وشريكه تابعين مباشرة إلى شركة (فورد)، فاوض على وضعه وشريكه بالاستمرار معهم وطلبوا منا قطعة أرض مساحتها ( 7 ) دونمات، وأبلغته أن الأرض جاهزة حين لم تكن كذلك بعد، وأثناء هذه المـــفــاوضـــات مع الــوفد الأمريكي من شـــركة ( فـورد ) ســــــــألني رئيــس الوفـــد عــــن جلالة الملك حسين ( رحمه الله ) فأجبته أني اعرفه رغم عدم معرفتي الشخصية به فتعاون معي إلى ابعد حد وعرض علي أن اشتري قطعة ارض وأقيم عليها مبنى للوكالة على أن ابعث له المخططات.
وبالفعل قمـــت باستئجار الأرض واستكملـــنا كــافة الإجــــراءات لحـــفل الافتـــتاح وكــان ذلـك في عام ( 1971 ) وحضر الحفل تجمع كثيف من السلك الدبلوماسي العربي لأبدأ رحلة جديدة من النجاحات المتوالية وحصلت على وكالة فورد رسمياً لبيع قطع سيارات فورد، وبدأت الشركات في التواصل معنا لأنهم بحاجة إلى خدماتنا.
وفي منعطف غريب وفي ظل حياتي التي كانت تنتقل أحداثها وتتغير من نقيض إلى نقيض، جاءني رئيس شركة فورد وطلب مني أن أوفر له نوعا من ثمار الجوز لا يوجد إلا في البرازيل، وكان الأمريكيون بحاجة لاستخدامه كبديل للنفط وكان ذلك في سنة ( 1973 ) حيث قطع العرب النفط عن الغرب، وكان نوع الجوز هذا غالي الثمن ويوجد في ولاية (ساندلويز دومارون)، ووافقت على تزويدهم بالمطلوب وكان ذلك الأمر يعتبر من أكثر أشواط التحدي التي واجهتها وكانت تصل بي إلى مرحلة الغرور الممزوج بالحظ. وسافرت إلى تلك الولاية التي كانت تبعد عن العاصمة مسافة طيران ست ساعات وعند وصولي، استعلمت أين يمكنني الحصول على طلبي، وأعلموني أن هذا الجوز يوجد في قرية (كدروانا) حيث لا يوجد طرق معبدة للوصول إليها، فاستأجرت جرافة قوية للوصول إلى غايتي واستغرقت الرحلة (8) ساعات إلى تلك القرية التي كان يعيش سكانها حياة بدائية في غابات المانجا ومزارع الموز وكان المطلوب مني ثمانية أطنان من الجوز لكن السكان رفضوا التعاون معي.
في الولايات المتحدة
عدت ادراجي إلى ميامي في الولايات المتحدة وأحضرت كمية من الملابس وعدت إلى القرويين، وعرضت عليهم قطعة واحدة من الملابس مقابل كيلو غرام من الجوز، فرحوا بذلك وتحركوا وأنجزوا الطلب في ثمانية أشهر كنت أتعرض فيها إلى مخاطر جسيمه في تلك البقعة الغريبة وكان أهم أعدائي فيها الأفاعي السامة، استأجرت قطارا صغيرا ونقلت البضاعة إلى الميناء وتم تحميلها في ثلاثة أيام.
وعند وصول الجوز إلى أميركا اخبرني البنك أن المشتري رفض الدفع لعدم اكتمال شروط الاعتماد، فبدأت مفاوضات جادة وبالتفاهم المباشر وكانوا يريدون فحص الجوز للتأكد من صلاحيته لإنتاج الطاقة المطلوبة.
أخبرتهم إن تكلفة هذه الصفقة هي (1.8) مليون دولار وبعد أخذ ورد دفعوا المبلغ، فاستثمرت هذا المبلغ مع بعض الشركاء في عمارة مؤلفة من (12) طابقا في أميركا وكان ثمنها (2.5) مليون دولار. وقمنا بإصلاحها بمبلغ مماثل، ومنذ ذلك اليوم بدأت المتاجرة الكبرى وازدهرت أعمالي وازدادت ملاييني لأصبح من رجال الأعمال المعروفين في البرازيل.
وبينما كنت رئيسا للجمعية الخيرية الفلسطينية حضر الأمير محمد بن طلال سنة ( 1976 ) إلى البرازيل ودعاني السفير هشام الشوا وقابلت الأمير ورحبنا به ثم قمت بعد ذلك بزيارة للأردن وقابلت الملك حسين ( رحمه الله ) والأمير محمد والأمير حسن ومنحني الملك حسين الجنسية الأردنية، وبعد عودتي للبرازيل أصبح بيتي بمثابة سفارة للأردن لعدم وجود سفارة أردنية هناك في ذلك الوقت.
ويستذكر “محي الدين الجمل” فيما يستذكر رحلة الحياة الكفاحية وفي تنقلاته وهجراته ومعاناته الطويلة وتحقيقه لطموحه المشروع الذي لم يتم أبدا لولا التصميم وقوة العزيمة والتفاعل مع الأحداث واستغلال الفرص بايجابية كبيرة جعلت نجاحه أمرا محتماً ويحدثنا السيد ” محي الدين ” بأنه برغم تحصيله العلمي الذي لا يتجاوز المرحلة الابتدائية استطاع أن يحصل على ثقافة واسعة شاملة ويتعلم أكثر من لغة كما أنه مطالع للكتب من الدرجة الأولى، وحقق علاقات وقدرات في المجالات الاقتصادية والسياسية، وتعرف على رجال مميزين من الجاليات العربية مثل د.يوسف الحسن وكان مستشار دولة الإمارات العربية المتحدة حيث عمل ما بين سنة 1973 – 1985 وقد دهش من إهمال السفارات العربية لمواطنيها بخلاف الدول الأخرى التي كانت تقدم أفضل الخدمات لمواطنيها، وكان من ضمن الرجال الذين تعرفت عليهم وأعجبت بهم المستشار سامي الدروبي وهو سوري ( المستشار الثقافي لسفارة الجمهورية العربية المتحدة في ريودي جانيرو ) وهو إنسان متواضع محبوب. وفي لمحة قصيرة عن حياته العائلية يقول السيد “محي الدين” أن لديه ابناً اسمه سامي وبنتين هما منى وماجدة.
العودة إلى الأردن
وعن استثماراته في الأردن بعد عودته سنة 1992 من الغربة الطويلة، يقول انه قام بالاتصال والتعاون بأصدقائه في الخليج العربي وأسسوا الشركة الإسلامية القابضة للمغتربين الأردنيين عام 1992 وتم انتخابه مديرا عاما ورئيسا لمجلس الإدارة وقاموا بشراء مصنع العالمية للسجاد وتم تطويرها ثم دخلوا في استثمارات أخرى في عدة قطاعات كالتأمين والأدوية والبنوك والأراضي والعـقــارات في الأردن وفلســـطين.
مازال هذا الرجل ” محي الدين الجمل ” مرتبطاً بالعمل يمارس نشاطه الاقتصادي الكبير بحيوية ورضاً، عطاء متواصلاً وصورة مشرفة وأمثولة حية تدفع بمن يعرفه ويعرف قصته الى الاستفادة من تجربته الغنية في حياة حافلة بالعطاء.
وتم أختيار محي الدين الجمل مؤخرا، عضو لجنة محلفين (Jury) في أحدى المحاكم الأمريكية، لكنه أعتذر لأشغاله المتنوعة الكثيرة، وعدم استطاعته إعطاء هذا العمل حقه من الوقت والجهد.
كتب التقرير.. محمد فهد الشوابكه
حقوق الطبع والنشر محفوظة لمجلة ” مال وأعمال” ويمنع النقل أو الاقتباس الا بموافقة مسبقة من المجلة
المصدر : https://wp.me/p70vFa-2XI
silver priceمنذ 12 سنة
لقد احتفظ جامع الشيخ محي الدين ، بالكثير من معالمه القديمة ، كالأعمدة ، والمآذن ، والجدران المزخرفة والمزينة على الطريقة العثمانية القديمة ،إلاّ أن الزلازل والكوارث الطبيعية كانت قد أصابت أجزاء منه بالتلف ، وكان يعاد بناؤها من جديد ، ولعل آخر تجديد في هذا المسجد كان في عام 1947 عندما تم توسيع الصحن ، حيث يلحظ الزائر أن نصف المسجد مغرق في قدمه ،ونصفه الآخر حديث نسبياً ، ولعل الأعمدة خير ما يبرهن على هذا الكلام فالخلفية منها مازالت على قدمها ويظهر ذلك من نوعية الصخر والتيجان الكورنتية ، على العكس من الأعمدة الأمامية ذات الحجارة الحديثة والتيجان المصنوعة من الجبس . أما الواجهة والمئذنة فقد بقيتا على قدمهما ، وروعي عند ترميمهما بعد الزلازل أن يحافظا على شكلهما كما بني للمرة الأولى .