مجلة مال واعمال

كيف توظف السويد مواردها لتشغيل العاطلين؟

-

بين الحين والآخر أعرِّج في هذا العمود على شؤون السويد وشقيقاتها من دول شمال أوروبا، ولا سيما النرويج والدنمارك، التي تشتهر بتسميتها الشائعة بـ “الدول الإسكندنافية”.

ولا أظن أن هذه الدول الثلاث في حاجة إلى مديح، ولا أظن أيضا أنها ترغب فيه، لقد امتلكت هذه الدول من ناصية العلم والمعرفة والتمدن والتطور والتعامل الإنساني في شتى مناحي الحياة، ما جعلها قبلة تنشدها الشعوب، ومن بينها دول متطورة في أوروبا وأمريكا.

وبعد أن أمضيت أكثر من عقد في هذه البقعة من الأرض، وبعد أن عشت لفترة من الزمن في دول الخليج العربية، أرى كثيرا من التشابه بين البقعتين من العالم. ومن خلال تجربتي أرى أنه من الممكن لدول الخليج العربية أن تستفيد من تجربة الدول الإسكندنافية في حقول الاقتصاد والعمالة والتجارة والتعامل الإنساني والتعليم وغيرها.

أقول هذا وأنا لا تغيب عن نظري فروقات جوهرية وأساسية، ولا سيما ما يخص الثقافة والتقاليد والدين وأسلوب الحكم. ولكن لندع هذه الأمور جانبا الآن على أن نعود إليها في تقارير مقبلة. الدول الإسكندنافية شأنها شأن الدول الخليجية تشترك تقريبا في ثقافة وإرث لغوي واحد. وهذه الدول تجمعها اتفاقات تجارية كثيرة جعلت منها تقريبا كيانا واحدا من حيث حرية النقل والتبادل والسكن والصيرفة والتجارة وغيرها من المضامير، من التي يطلق عليها العرب “ممارسات وحدوية”، ولكنهم قلما يمارسونها.

وتشترك أيضا في اتباع نظام اقتصادي بارع جعلها في منأى تقريبا من الكوارث والأزمات الاقتصادية التي عصفت بأوروبا وأمريكا في السنين الأخيرة. والنموذج الاقتصادي الذي تتبعه يطلق عليه: “نموذج اقتصاد دول شمال أوروبا” The Nordic Model. وسأحاول تغطيته بمقال منفصل بعون الله. واستنادا إلى هذا النموذج، على الدولة توفير فرص عمل لكل مواطنيها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. بالطبع هذا هدف تحقيقه ليس يسيرا على الإطلاق ولا يعني أبدا توافر ثروات هائلة. دول الخليج العربي الغنية بالنفط لا تنقصها الثروات.

السويد شأنها شأن النرويج والدنمارك تركز على ثقافة العمل، أي جعل حب العمل يوازي – لا بل يفوق حب أي شيء آخر في الدنيا. ومن أركان هذه الثقافة التي يتلقفها الفرد من المدرسة أولا أن العمل في أي حقل خدمي أو صناعي أو تجاري أو أيٍّ كان، شرف وفخر. من يحب وطنه يشتغل بغض النظر عن ماهية العمل.

ورغم أن العاطلين عن العمل يتسلمون مخصصات الضمان الاجتماعي، إلا أن أغلبية السكان عدا الأجانب يمقتونها ويرون فيها إهانة لكرامتهم الإنسانية. وهذا نابع من ثقافة العمل التي غرستها الدولة في الفرد والمجتمع.

ولهذا يتهافت السويديون على أي حقل تتوافر فيه فرص العمل. وترى طلبة الجامعات ينتقلون من فرع إلى آخر استنادا إلى الإحصائيات التي تقدم عن فرص العمل المتوافرة أو التي ستكون جاهزة في هذا الحقل أو ذاك.

والحقل الذي تتوافر فيه أكثر فرص عمل في هذه الدول الثلاث الآن هو خدمة المسنين الذين بدأت أعدادهم في الازدياد. الناس تعمّر هنا وقد تعيش أكثر من 20 سنة بعد سن التقاعد وخدمتهم تحتاج إلى فوج من الممرضين والممرضات وعمال وعاملات تنظيف وغيره لأن كثيرا منهم صار واهن العظم لا يستطيع الحركة.

ما يدهشني هو المنافسة الشديدة بين الشباب والشابات الجامعيات على التقديم للعمل في دائرة خدمة المسنين. وترى الابتسامة العريضة على الوجوه عند حصولهم على العمل رغم ما يتطلبه من أمور قد يستنكف القيام بها الشباب الخليجي.

الثقافة الإسلامية تحتم على الأبناء خدمة والديهم وألا يقولوا لهما حتى “إف”. ولكن هذا ليس بيت القصيد. السويديون يهرعون للعمل ليس كخدم للمسنين بل كزبالين ومنظفين وفراشين وسائقين ونُدُل في المطاعم والفنادق وطهاة في المدارس وعمال في المصانع وغيرها من مهن لا أتصور أن الشباب في الخليج يقبل بها.

ولن يخطر ببال الدولة استقدام عمالة أجنبية للقيام بخدمة مسنيها طالما هناك بطالة سويدية.

*نقلا عن صحيفة “الاقتصادية” السعودية.