مجلة مال واعمال

ثقافة الاستقالة .. والنظرية الإدارية

-

مال و اعمال

يقول خبراء الإدارة إنك بمجرد الاتصال على سنترال الجهة الإدارية تستطيع أن تتعرف على بيئة وكفاءة هذا الجهاز. أسلوب رد الموظف وسرعة الاستجابة وتحويل المكالمة واستقبالها من المسؤول في الجهاز ينبئك بحقائق كثيرة، فمن خلالها تعرف مدى انضباط الموظفين وأسلوب تعاملهم مع المراجعين، ومهنية الجميع وتجاوبهم مع المستفيدين واهتمامهم بالجودة.

النظرية نفسها يمكن إطلاقها على جزئيات في أطراف المنظومة. أسلوب تعامل الحراسات مع المراجعين، طريقة استخدام الموارد المتاحة كالسيارات، كفاءة وأسلوب تعاطي موظفي المكاتب الفرعية. هذا ما يمكن أن نسميه ” ثقافة المنظمة”.

تتكون- بناء على هذه المعطيات- مجموعة من الاستنتاجات التي تحتاج إلى التحليل لمعرفة مدى انتشارها في البيئة بشكل عام أو كونها محصورة في الجهة الإدارية فقط. النظرية يمكن تعميمها على الدول بحكم التلازم الاجتماعي لأفراد المنظومة الكبيرة وهي الدولة. يمكن- على سبيل المثال- أن ننعت اليابانيين بالانضباط بسبب سلوكهم وطريقة عملهم ومظهرهم بشكل عام. هذا التعميم يمكن أن يكون صحيحًا على الغالب، لكن يمكن أن تشذ عنه فئات أو أشخاص.

يمكن أن تختلف مجموعات داخل المنظومة الكبيرة، بسبب تبنيها ثقافة تعتبر شاذة عن العرف الاجتماعي أو الإداري، فـ”المورمن” مختلفون عن بقية الأمريكيين بسبب تبنيهم سلوكًا وطريقة حياة مختلفة. وعليه يمكن أن نحكم على فئات شاذة في مجتمعات معينة بسبب وجود تنظيم وتقنين للسلوك المختلف.

بالعودة للإدارة والتطبيق على المملكة يمكن أن نعمم مفاهيم معينة على كل المنظومات الإدارية، ونكتشف استثناءات تبرز بسبب اختلافها. ثقافة المنظمة في ”أرامكو السعودية” تجعلها تبرز كحالة مختلفة، رغم التحفظ على الحال بين اليوم والأمس في هذه الثقافة إلا أنها لا تزال مختلفة. هذا الاختلاف يعتبر مخططًا ومبنيًا على إرث إداري تم الحفاظ عليه إلى حد كبير.

تقع مسؤولية تكوين ثقافة المنظمة والتمسك بها على المسؤول الأعلى في أي قطاع. فإذا كان يحضر لعمله في السابعة فسيحضر الموظفون في السابعة إلا ربعًا. وإذا كان ينجز معاملته بسرعة فسيكون مرؤسوه أسرع. إذا كان المسؤول يستغل وظيفته للحصول على مزايا، فسيقوم الباقون بطرق الأبواب نفسها وادعاء أن بإمكانهم إيصال الجميع لـ (الرئيس).

يستطيع القارئ أن يطبق القراءة نفسها على مختلف الإدارات ويبني صورة لشخصية الإدارة. المؤسف أن أغلب الجهات الخدمية ستبدو بشكل سيئ. كنت أتحدث مع مدير مبيعات في شركة، وفي إطار الحديث عن علاقاته الشخصية، ذكر لي أكثر من عشرة مسؤولين يديرون جهات حكومية، وكيف أن علاقته بهم متميزة، وأنه يخدمهم ويخدم من يبعثون إليه. يحصل الرجل في المقابل على خدمات سريعة وفورية بالهاتف – غالبًا – له ولأصحابه وأقاربه. مجرد استخدام الوظيفة للحصول على امتيازات هو فساد إداري، بل يحاكم عليه القانون.

يستغرب البعض عندما يقرأون خبرًا عن استقالة وزير بريطاني بسبب استخدامه الورق الرسمي للوزارة في كتابة خطاب وساطة لصديقة له، باعتباره استغلالًا للسلطة. فأين نصنف كل خطابات الوساطة التي تستخدم كل الأوراق الرسمية للوزارات والهيئات والمؤسسات التي تعج بها مكاتب التوظيف والمشتريات… إلخ؟

يمكن تطبيق مفهوم ثقافة المنظمة على سلوكيات كل العاملين باعتبار أن الجزء يمثل الكل. عندما يستقيل وزير النقل بسبب حادث قطار يبعد عن مقر الوزارة بـ500 كيلو متر، فهو يقول إنه لم يتمكن من تأصيل ثقافة المهنية وأداء العمل بالشكل الآمن الذي يحمي مستخدمي وسائل النقل؟ كل هذا بسبب خطأ مهندس أو فني أهمل في أداء واجبه في مكان ما من الوزارة، ولأن الأخطاء تراكمية. هذه الاستقالة وغيرها من التصرفات القريبة من الخيال بالنسبة لنا سببها القناعة بأن المهنية والاحترافية هما ثقافة يجب أن تسود الوزارة. فلو كان الوزير يحترم وظيفته لما استخدم الورق الرسمي لتحقيق طلب شخصي، ولما أخطأ موظف الصيانة الذي كان لسلوكه علاقة بحادث القطار.

انتحر وزير الزراعة الياباني بسبب طلب المعارضة في البرلمان الياباني أن يقدم استقالته لوجود شكوك حول عمليات تمويل حملة رئيس الوزراء الياباني، ساهم فيها الوزير نفسه. طبعًا هذا في بلد يحاسب فيه كل مسؤول عن كل ”هللة ” تدخل حسابه، قبل توقيع إقرار الذمة المالية وبعده.

أنا لا أطالب بانتحار أي مسؤول لأنه أمر حرمه الله تعالى، لكنني أعتقد أن من يظن أنه ظلم الوطن والمواطنين في عقد معين، أو أضر بالمصلحة العامة لتحقيق مصالحه الشخصية، أو حتى نفذ مشروعًا ثبت عدم جدواه أو عدم الحاجة إليه أو سوء تنفيذه أو ترسيته بطريقة غير أخلاقية. من تسلم مشروعًا لا تنطبق عليه المعايير العالمية أو تنازل عن شروط معينة أو متطلبات بسبب (حب الخشوم) أو الحياء من صاحب الشركة المحترم. حتى من يعتقد أنه لا يحقق إضافة أو غير قادر على ضمان تعميم ثقافة عمل نزيهة واحترافية، كل واحد من هؤلاء يجب أن يستقيل لأن اليوم دنيا، وغدًا آخرة. اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، فليعترف بخطئه ويعتذر علنًا ويخرج من الصورة ليكون قدوة.

*نقلا عن الاقتصادية