المعمار الفرنسي سلسلة متكاملة تتألف من حلقات ترفد الواحدة الأخرى وتدعمها. ولم يكن قصر فرساي ليكون ما هو عليه لو ما توصلت إليه الهندسة المعمارية في فرنسا، خصوصاً مع تشييد قصر فولوفيكونت Vaux-Le-Vicomte الذي يبعد 50 كيلومتراً عن باريس، ففي التصور الهندسي لهذا القصر وحدائقه، المصادر الأولى التي نهل منها المصممون والفنانون في تشييدهم قصر فرساي. وأخيراً، فتح قصر فولوفيكونت أبوابه كما العادة كلّ ربيع تمهيداً لنشاطات فصل الصيف، أمام عدد من الإعلاميين الفرنسيين وغير الفرنسيين، لإطلاعهم على أحوال القصر وأهميته ضمن العمارة الفرنسية.
قصر فرساي هو بلا شك أشهر القصور الفرنسية، ويختزل، من خلال عمارته وحدائقه، الملامح الأساسية للفنون الفرنسية الكلاسيكية في عصرها الذهبي في زمن الملك لويس الرابع عشر (1715- 1638) الذي أصبحت فرنسا في سنوات حكمه أقوى دولة في أوروبا. يزور القصر سنوياً أكثر من سبعة ملايين سائح، وكان عبر العصور النموذج الذي استوحى منه المعماريون هندسة القصور الملكية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، لما يعكسه من إبداع وأسلوب عيش وأهداف سياسية واجتماعية. غير أنّ هناك قصوراً أخرى شيّدت في فرنسا في زمن الملك لويس الرابع عشر وتعد أيضاً من روائع العمارة الفرنسية وإن كانت لا تتمتع بشهرة قصر فرساي، من أهمها القصر الذي أتينا على ذكره. ولهذا القصر قصّة خاصة، فما هي إذاً قصة هذا القصر؟
شيّد قصر فولوفيكونت بين عامَي 1641 و1661 بأمر من نيكولا فوكي الذي كان مسؤولاً عن المال في زمن لويس الرابع عشر، وكان إلى ذلك من كبار الأثرياء وأصحاب النفوذ، كما كان معروفاً بتشجيعه الكبير للعلوم والفنون. ساهم في تصميم القصر وإعداده مجموعة من ألمع فناني تلك المرحلة، من أبرزهم المعماري لوي لوفو ومصمم الحدائق أندريه لونوتر، وعمل الاثنان لاحقاً في قصر فرساي ومنحاه طابعه الشهير الذي حافظ عليه وتميّز به. باختصار، كان فولوفيكونت، بعمارته الفريدة وزخرفته وحدائقه الرائعة، المثال الأوّل بل النموذج الذي مهّد لإنجاز قصر فرساي.
عندما انتهت أعمال بناء قصر فولوفيكونت، دعا فوكي الملك لويس الرابع عشر إلى زيارته، وكان هذا الأخير في الثالثة والعشرين من العمر. وفي 17 آب (أغسطس) 1661، أقام فوكيه احتفالاً أسطورياً باذخاً أدهش الملك الشاب، وأطلقت فيه الألعاب النارية وقدمت العروض الموسيقية والمسرحية، منها عرض للكاتب المسرحي موليير الذي كان صديقاً لفوكي. ومن شدة انبهاره بما شاهده من فخامة وثراء، شعر الملك بالغيرة فقرر أن يضعه في السجن بتهمة إهدار أموال الدولة والاستيلاء عليها. وبالفعل، أوقف فوكي مطلع أيلول (سبتمبر) من العام نفسه وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وظل سجيناً حتى وفاته عام 1680 وكان في الستين من العمر. وبعد استيلاء الملك على ثروة فوكي، تمكّن من تحقيق حلمه فشيّد قصر فرساي، وأراد أن يتخطى بجماله وفخامته قصر فولوفيكونت فاستعان، بعدد كبير من المبدعين في حقول العمارة والحدائق.
أدت النهاية المأسوية لصاحبه فوكي إلى عرضه للبيع مرات عدة كان آخرها عام 1875 عندما اقتناه ألفريد سوميي الذي كان من عشاق العمارة الجميلة والحدائق، فرمّمه وأعاد الحياة الى حدائقه الميتة. واصل أولاده وأحفاده هذا العمل الى اليوم. وما يميز فولوفيكونت عن القصور الفرنسية الأخرى أنه ليس من ممتلكات الدولة، بل هو ملكية خاصة مسجلة على لائحة الصروح التاريخية. ومنذ العام 1968، صار مفتوحاً أمام الزوار الذين يبلغ عددهم 300 ألف زائر سنوياً، وهم من الفرنسيين وغير الفرنسيين.
عند زيارتنا القصر، التقينا الإخوة الورثة الذين يتولون إدارته فأطلعونا على الجهود الكبيرة التي يقومون بها من نشاطات واحتفالات تبدأ ربيع كل عام لاستقطاب مزيد من الزوار، كما أخبرونا عن أعمال الترميم والصيانة التي يشرفون عليها باستمرار للحفاظ على معالم القصر وكنوزه الفنية وحدائقه الساحرة. وهذه الحدائق من تصميم أندريه لونوتر، مبدع الحديقة على الطريقة الفرنسية، ويعد إنجازه في قصر فولوفيكونت تحفته الفنية الأولى، وهي تقوم على الدقة والتآلف الهندسي والعقلانية. وكانت فرنسا احتفلت قبل سنتين بمرور 400 عام على ولادة لونوتر، فأقيمت الاحتفالات والمعارض التي تسترجع إنجازاته، منذ قصر فولوفيكونت حتى قصر فرساي الذي ظلّ يعمل فيه 30 سنة. وهذا ما يعكس تميّز فرنسا على المستوى العالمي، باهتمامها بالموروث المعماري الذي يشكّل جزءاً لا يتجزأ من ثقافتها كلاً، ماضياً وحاضراً.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-cL5