مجلة مال واعمال

عملية لَي منحنى العوائد على السندات

-

تشير التطورات الحالية للاقتصاد الأمريكي إلى تواضع معدلات النمو بشكل عام، وتدهور أوضاع سوق العمل مع ميل معدلات البطالة نحو الارتفاع بعد التحسن النسبي الذي شهدناه في الأشهر الماضية، كذلك استمر سوق المساكن يشهد تراجعا في الوقت الذي يتراجع فيه معدل نمو الإنفاق الاستهلاكي على نحو مثير للقلق، وفي ظل هذه التطورات تراجع معدل التضخم مدفوعا بتراجع أسعار الوقود، هذه هي أشد جوانب القلق في الأداء الاقتصادي الأمريكي حاليا.

في ظل هذه الأوضاع تتوقع لجنة السوق المفتوح للاحتياطي الفيدرالي FOMC أن يظل النمو متواضعا خلال الفترة القصيرة القادمة قبل أن يأخذ في التصاعد بعد ذلك، غير أنه من الواضح أن الضغوط في السوق المالي العالمي ظلت تمارس ضغوطا حادة على الاتجاه العام للنمو المتوقع. لهذا استمرت اللجنة في تبني سياسات نقدية ميسرة من خلال التأكيد على تبني استمرار بقاء معدل الفائدة على الأموال الفيدرالية (معدل الفائدة على احتياطيات البنوك) عند مستوياته المستهدفة ما بين 0 و0.25 في المائة حتى أواخر 2014.

الجديد في اتجاهات السياسة النقدية الأمريكية هو ما قررته اللجنة أخيرا من أن تستمر حتى نهاية العام في برنامجها الخاص بتوسيع المدى الزمني لاستحقاقات الأوراق المالية التي تحتفظ بها في محفظتها المالية، وهي العملية التي يطلق عليها Operation Twist، أو ”لي معدلات العائد على السندات”، حيث تنوي اللجنة أن تقوم بتوسيع نطاق شراء سندات خزانة ذات آجال استحقاق بين 6 و30 عاما، في مقابل قيامها ببيع أو استبدال كميات مماثلة لهذه العمليات لسندات ذات آجال استحقاق ثلاث سنوات أو أقل. تبلغ الميزانية المخصصة للعملية 667 مليار دولار، التي تتمثل في إعادة استثمار المدفوعات المستحقة عن الأوراق المالية المغطاة بالقروض العقارية التي تقدمها المؤسسات العقارية التي تستحق في نهاية حزيران (يونيو) الجاري والتي تبلغ قيمتها 400 مليار دولار والتي اشتراها ”الاحتياطي الفيدرالي” في أعقاب أزمة سوق المساكن، فضلا عن 267 مليار دولار إضافية من السندات التي سيتم بيعها أو تحصيل قيمتها من سندات الخزانة حتى نهاية 2012.

من الواضح أن العملية في جوهرها عملية استبدال سندات ذات فترات استحقاق أقصر إلى سندات ذات فترات استحقاق أطول، وذلك من خلال بيع أو استرداد السندات ذات فترات الاستحقاق الأقصر واستخدام الحصيلة في شراء سندات ذات فترات استحقاق أطول، وذلك في إطار سياسة الاحتياطي الفيدرالي بتوسيع نطاق تواريخ الاستحقاق للسندات التي يحتفظ بها في محفظته المالية، غير أن هذه العملية ستؤدي إلى مزيد من الضغوط التنازلية على معدلات الفائدة طويلة الأجل، وهو ما يساعد السياسة النقدية الأمريكية على أن تلعب دورا أكثر فاعلية في دعم عمليات استعادة النشاط الاقتصادي الحالية.

يتمثل التوزيع النسبي الحالي لمحفظة الأوراق المالية للاحتياطي الفيدرالي نتيجة عمليات شراء السندات التي تمت في إطار برامج التيسير الكمي في 32 في المائة سندات استحقاق ست إلى ثماني سنوات، و32 في المائة سندات استحقاق ثماني إلى عشر سنوات، و4 في المائة سندات استحقاق 10 – 20 سنة، و29 في المائة سندات استحقاق 20-30 سنة. هذا التوزيع سيتم تعديله من خلال العمليات التي سيقوم بها الاحتياطي الفيدرالي، حتى يعدل متوسط آجال استحقاق السندات. وفقا لـ ”الاحتياطي الفيدرالي” كان متوسط معدل استحقاق سندات الخزانة لـ ”الاحتياطي الفيدرالي” نحو 75 شهرا حتى نهاية أيلول (سبتمبر) 2011، وعندما تتم إضافة الـ 267 مليار دولار في برنامج توسيع نطاق تواريخ الاستحقاق سيرتفع متوسط تواريخ استحقاق السندات الحكومية التي يحتفظ بها ”الاحتياطي الفيدرالي” إلى 120 شهرا بنهاية 2012.

لكن ما الهدف من هذه العمليات التي يقوم بها ”الاحتياطي الفيدرالي”؟ للإجابة عن هذا السؤال دعنا نحلل الآثار المتوقع أن تترتب على ذلك. عندما يقوم ”الاحتياطي الفيدرالي” بشراء سندات حكومية طويلة الأجل، وتمويل عمليات الشراء من خلال بيع السندات قصيرة الأجل، سيترتب على عمليات شراء السندات طويلة الأجل ارتفاع أسعارها في سوق السندات ومن ثم انخفاض معدلات العائد عليها، وعلى العكس ذلك من المتوقع أن يترتب على بيع السندات قصيرة الأجل أن تنخفض أسعار هذه السندات ومن ثم ترتفع معدلات العائد عليها، وهو ما يؤدي إلى لي معدل العائد على السندات، وجعل معدل العائد أقل حدة، مع تغير معدلات العائد سيميل معدل الفائدة طويل الأجل نحو الانخفاض، وهذا هو ما يستهدفه ”الاحتياطي الفيدرالي” من العملية، حيث يؤدي تراجع معدلات الفائدة طويلة الأجل إلى تشجيع الإنفاق الاستثماري وتحسين شروط الاستثمار بالنسبة لقطاع الأعمال الخاص، بما يؤدي إلى إعطاء تحفيز إضافي لدعم عمليات استعادة النشاط الاقتصادي.

في جوهره سيؤدي هذا اللي في معدلات العائد إلى زيادة الضغوط على معدلات الفائدة طويل الأجل على السندات الحكومية نحو الهبوط، والتي ينظر إليها المستثمرون على أنها تمثل أفضل سبل الاستثمار طويل الأجل، الأمر الذي يؤدي إلى خفض جاذبية السندات الحكومية طويلة الأجل، وهو ما يدفع المقرضين إلى التحول نحو أدوات استثمارية أخرى أكثر جاذبية، مثل سندات الشركات التي ستعطي عائدا أعلى نسبيا، وهو ما يحسن ظروف التمويل لشركات قطاع الأعمال ويخفض تكلفته، ولا شك أن هذا الانخفاض في معدلات الفائدة طويلة الأجل سيؤدي إلى تخفيف الضغوط في سوق المال، الأمر الذي يساعد على تحسين فرص التعافي واستعادة النشاط الاقتصادي.

من ناحية أخرى، على الرغم من أنه من المتوقع أن يترتب على البرنامج ارتفاع معدلات الفائدة قصيرة الأجل، إلا أن الأثر المتوقع لهذا الارتفاع سيكون محدودا أخذا في الاعتبار المستويات المتدنية لهذه المعدلات حاليا، حيث لا تتوقع اللجنة أن يحدث ارتفاع في معدلات الفائدة قصيرة الأجل بصورة استثنائية، خصوصا بالنسبة لمعدل الأموال الفيدرالية حتى نهاية 2014، وهو ما يعني أن معدلات العائد على السندات قصيرة الأجل قد لا تتأثر نتيجة البرنامج.

من ناحية أخرى، فإن لجنة السوق المفتوح ترى أن برنامج التوسيع في آجال الاستحقاق لن يترتب عليه تعقيد استراتيجية خروج ”الاحتياطي الفيدرالي” من سياساته التكيفية الحالية، أي التحول من السياسة النقدية التوسعية الحالية إلى سياسة أكثر تقييدا للسيطرة على اتجاهات التضخم إذا ما انعكست أوضاع الاقتصاد الأمريكي في ظل السيولة الضخمة جدا المتداولة حاليا فيه. حيث تشير اللجنة إلى أنه في حال حدوث تحول في اتجاهات النشاط فإن ”الاحتياطي الفيدرالي” يمكن أن يستخدم أدوات عدة لتسريع عملية الخروج من السياسة النقدية الميسرة حاليا، مثل تسريع عمليات تحصيل قيمة السندات، وتغيير معدلات الفائدة المدفوعة على الاحتياطيات الإضافية التي تحتفظ بها البنوك الأمريكية حاليا لدى ”الاحتياطي الفيدرالي”، واستخدام أدوات استنزاف احتياطيات البنوك، وعمليات بيع الأصول وذلك لوقف السياسة النقدية التوسعية وامتصاص السيولة الزائدة في الوقت المناسب وإعادة القوائم المالية لـ ”الاحتياطي الفيدرالي” إلى وضعها الطبيعي.

لكن ما الفرق بين هذه العملية وعمليات التيسير الكمي التي قام بها ”الاحتياطي الفيدرالي” مسبقا؟ الإجابة هي أنه في خطة التيسير الكمي 1 لجأ ”الاحتياطي الفيدرالي” أساسا إلى شراء الأوراق المالية المغطاة بالرهون العقارية التي تصدرها المؤسسات العقارية (مؤسستا فريدي ماك وفاني ماي) وكان الهدف الأساسي من العملية تخفيض معدلات الفائدة على القروض العقارية وتشجيع عمليات إعادة تمويل المساكن وزيادة الاستهلاك. أما في خطة التيسير الكمي 2 فقد اقتصرت مشتريات ”الاحتياطي الفيدرالي” على شراء سندات الخزانة الأمريكية طويلة المدى، بهدف تخفيض معدلات الفائدة طويلة الأجل. عمليات لي معدلات العائد على السندات تهدف أساسا إلى تعديل هيكل معدلات الفائدة طويلة الأجل وقصيرة الأجل لتعديل أوضاع سوق المال وتشجيع الاستثمار من جانب قطاع الأعمال الخاص.

بعض المراقبين يرى أن لجوء ”الاحتياطي الفيدرالي” إلى عملية لي معدلات العائد يعطي إشارات قوية على أنه ربما يستعد لاتخاذ إجراءات أكثر كثافة وعمقا في حالة تدهور الأزمة الأوروبية حتى يحصن الاقتصاد الأمريكي من آثار العدوى التي يمكن أن تلحق بالنمو نتيجة لتدهور أوضاع أوروبا.