يعتمد الاقتصاد السعودي بشكل عام على مبدأ حرية التبادل التجاري والانفتاح الاقتصادي، وتتحدد أسعار معظم السلع في المملكة بحرية وفقا لقانون العرض والطلب رغم بعض أشكال الدعم والتدخل الحكومي لأسباب اجتماعية مبررة في أسواق السلع والخدمات المختلفة، ويتجاوز هذا التدخل في كثير من الحالات مجرد الإشراف والتنظيم للأنشطة الاقتصادية واستخدام السياسات الاقتصادية المتعددة.
هذا ويعتبر العديد من الاقتصاديين تدخل الدولة من العوامل الأساسية لتحديد الأسعار في الاقتصاد الحديث؛ إذ يرون أن الأسعار تخضع اليوم لاستراتيجية القوى الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى عوامل السوق، التي تكون الدولة إحدى دعائمها الأساسية؛ فيكرسون دور الحكومة في تحديد أسعار المواد والسلع الزراعية الأساسية والمواد والخدمات المنتجة من القطاع العام، وفي مراقبة الأسعار وتوجيهها بصورة عامة.
وفي هذا السياق يتصدر وسائل الإعلام في السعودية كما في العديد من الدول سجال واسع حول كفاءة السوق أو عدالة الأسعار الجارية لبعض السلع وضرورة تدخل الحكومة لفرض الأسعار المناسبة؛ وكانت أزمة الأسمنت والألبان أخيرا مثالاً حياً لهذا السجال في المملكة، إذ أقدمت الحكومة على تحديد (تخفيض) سعر هاتين السلعتين تجاوباً مع مطالبات شعبية، ناهيكم عن أن العديد من المراقبين يشدد على ضرورة استمرار دعم صناعة الأسمنت المحلية بشكل خاص، والتي تعتبر ثاني صناعة في السعودية من حيث حجم الاستثمارات.
وقد عم ترحيب واسع بالخطوة التي قامت بها الحكومة بالتدخل بحجة “فشل السوق” في تحديد سعر يحقق مصلحة المنتج والمستهلك على حد سواء، ويبرر العديد من المراقبين هذا التدخل بدعوى أن لدى الحكومة معلومات كاملة ودقيقة حول تكاليف وأسعار السلع ونوعيتها وأماكن توزيعها، ما يجعل الأسعار المفروضة من قبلها غير متحيزة لطرف على حساب الآخر. وتبع قرار تحديد سعر الأسمنت تعميم حكومي لجميع محال ومباسط الأسمنت في السعودية بالالتزام بالبيع بسعر 14 ريالا للكيس. وتزامن هذا التطور مع إجراءات حكومية أخرى منها إصدار أربع رخص جديدة لإنشاء مصانع أسمنت، والإعلان عن قرب فتح المجال للشركات المحلية لاستيراد الأسمنت، الأمر الذي خشيت من نفاذه بعض الشركات المنتجة للأسمنت، نظراً لتأثيره المتوقع في مصالحها في السوق، ودخول الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أخيرا كطرف ذي علاقة من خلال اجتماع مع وزارة التجارة والصناعة للوقوف على دور الوزارة في حل مشكلة أزمة الأسمنت وضمان توفيره بالأسعار المقررة. ويدور اليوم نقاش جاد في أروقة مجلس الشورى حول نظامية تشكيل لجنة خاصة لدراسة توصية تقدم بها عدد من أعضاء المجلس تطالب بضرورة تحديد أسعار المواد الاستهلاكية الضرورية وحمل وزارة التجارة والصناعة على التسعير العادل الذي لا يضر بالتاجر أو المستهلك.
إن فرض سعر عادل من أية جهة – بما فيها الحكومة – ما عدا المتعاملين في السوق صعب التحقيق إن لم يكن مستحيلاً. ولا يمكن أن تتوافر للحكومة معلومات أدق مما لدى المستهلك والمنتج معاً بما يؤهلها لأن تتخذ قراراً يلائم تطلعات المستهلك وينسجم مع نموذج إنتاج البائع في آن معاً. من جهة أخرى يتطلب دور الحكومة أن تضع الأطر التنظيمية والرقابية المناسبة، بهدف إزالة مظاهر الفشل في السوق، أي إزالة التشوهات السوقية، وتطبيق تلك الأطر بكل صرامة وجدية بشكل يمنع تسلط أي طرف في السوق على الطرف الآخر، بما فيها إلغاء الاحتكارات الموجودة وتأمين ظروف المنافسة غير المقيدة.
وقد تكون أسعار الأسمنت الحالية غير مبررة، إما بسبب عدم توافر كميات مناسبة من الوقود أو شراء شركات الأسمنت والمحروقات بالأسعار السوقية (غير المدعومة)، أو بسبب ارتفاع تكلفة النقل من المصانع إلى نقاط التوزيع أو أي سبب آخر. إلا أننا نرى أن حل الأزمة يكمن في إزالة العوائق وتحرير هذا القطاع من كل التدخلات، والسماح لآليات السوق بأن تعمل دون قيد، وبذلك تقوم الحكومة بدورها الطبيعي في حماية وتشجيع المنافسة العادلة ومنع كل الممارسات الاحتكارية المخلة بالمنافسة المشروعة التي تؤدي إلى فشل السوق، وبالتالي يجني المستهلك ثمار المنافسة في شكل خيارات أكثر وأسعار عادلة ووفرة في المعروض تصب كلها في خدمة الاقتصاد الوطني في المدى البعيد.
أين يكمن الحل؟
يرجع فشل السوق في أداء مهمته إلى ثلاثة عوامل رئيسة، أولها التأثير في الطلب أو في العرض أو في كليهما من قبل أطراف لهم مصالح يسعون إلى تحقيقها، وثانيها ضعف الأطر التنظيمية التي تضعها الحكومة في تحديد دور كل من أطراف التبادل، ومنع أي طرف من التأثير في آلية السوق، وثالثها المداخلات المباشرة أو غير المباشرة من طرف الحكومة في التأثير في آلية السوق ذاتها أو الحلول مكان آلية السوق في تحديد السعر المناسب بأقل من مستوى السعر الجاري.
ونتساءل: ما السعر المناسب؟ وكيف يمكن تحديده؟ وهنا علينا أن نتذكر أنه يتحدد في سوق حرة تضمن “حرية الاختيار” للمستهلك كما عبر عنها الاقتصادي المعروف ملتون فريدمان (والمنتج هو مستهلك أيضا) دون تدخل من أي طرف كان، فالوسيلة المثلى تكمن في عدم إعاقة العرض من الارتفاع (إما بالسماح بزيادة الطاقة الإنتاجية إن كان ذلك ممكناً أو حتى بالاستيراد)، وإلا فإن السعر المحدد بقرار حكومي لن يكون السعر التوازني بين ما يطلبه المستهلك ويرضى أن يدفعه، وبين ما يرغب المصنع في بيع إنتاجه بذلك السعر.
ويستدعي هذا السياق أن نفرق بين السعر الذي يحدده السوق والسعر الذي يرغب فيه كل من المنتج والمستهلك؛ وإن عدم تطابق هذين السعرين دليل على أن عملية السوق لم تتم، وفي أغلب الأحيان يفرض الطرف الأقوى السعر الذي يناسبه على الطرف الآخر، ما يؤدي إلى تذمر واحتجاج وإلى تدخل الحكومة لفرض سعر قد لا يستند إلى اعتبارات اقتصادية، ما يؤدي إلى أو يكرس فشل السوق.
إن تدخل الحكومة في آلية تحديد أسعار السلع والخدمات لا يؤدي إلى تحقيق التوازن التنافسي الذي بموجبه يتحدد السعر الذي يرضي طرفي التبادل؛ وبينما تتاح للمنتجين – في غياب التنظيم والرقابة – أساليب متعددة لحماية مصالحهم بتغيير قواعد السوق الحرة، فيلجؤون إلى ممارسة أساليب احتكارية أو حمائية مختلفة، يفتقر المستهلكون عادة إلى وسائل مشابهة (باستثناء احتكار المستهلك المعروف باسم Monopsony المتاح فقط لكبار المستهلكين الذين هم بدورهم من كبار المنتجين. وبين أولئك وهؤلاء لا يزال العديد من المراقبين – ومنهم أصحاب الفكر الاقتصادي – في حيرة مستمرة إزاء كيفية حماية حقوق المتعاملين في السوق ما بين منتجين ومستهلكين، كما أنهم يفتقرون إلى مخرج واضح وعادل في آن معا”، وهو الأمر الذي أدى إلى مواقف متباينة أحيانا ومتضاربة أحيانا أخرى لا تخلو من مجابهة حادة.
علينا أن نتذكر أن غاية الاقتصاد أن يلبي حاجات المستهلك، ولن يتحقق ذلك بكفاءة إلا في ظل اقتصاد السوق والحرية الاقتصادية. ويقتضي ذلك أن تقتصر التدخلات الحكومية على الوسائل التنظيمية والرقابية واتخاذ الخطوات الضرورية لتلافي حدوث أي تجاوزات من بعض المتعاملين في الأسواق تحد من حريتها. وهذا ما أكده رائد الاقتصاد الحر آدم سميث، فقد ربط حرية الأسواق وكفاءة اليد الخفية بثلاثة شروط أساسية لدور الحكومة غالباً ما تناساها خصومه أو أسقطها معارضو اقتصاد السوق: أن ينحصر دور الحكومة في سن القوانين وتطبيقها بشفافية وحزم، وحماية حقوق الملكية الفردية، وتوفير الأمن والسيادة للدولة ومواطنيها تجاه أي تدخل خارجي.
لقد زودتنا الوقائع التاريخية بأمثلة قاطعة حول فشل سياسة تحديد الأسعار أو نتائج تدخل السلطة الحكومية في آلية السوق، وأن سعر السوق لا يتحدد إلا في سوق حرة، وما زال العديد من المراقبين والمهتمين يطالب بضرورة هذا التدخل لمواجهة فشل السوق، إلا أنهم يتناسون أن فشل السوق ما هو إلا نتيجة للتدخل في آلياتها وتعطيل لحرية تحديد الأسعار.
*نقلاً عن صحيفة “الاقتصادية” السعودية.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-1IZ