عندما بدأ العمل باليورو، سمحت الأجهزة التنظيمية للبنوك بشراء كميات غير محدودة من السندات الحكومية من دون أن تضع جانباً أي أرصدة رأسمالية، وحدد البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة على كل السندات الحكومية في منطقة اليورو على أسس متساوية . وقد وجدت البنوك التجارية فرصة مواتية في تكديس كميات كبيرة من سندات الدول الأكثر ضعفاً طمعاً في الفوز ببضعة نقاط أساسية إضافية، الأمر الذي أدى إلى تقارب أسعار الفائدة في مختلف بلدان منطقة اليورو . والواقع أن ألمانيا، التي كانت تناضل لمواجهة أعباء إعادة توحيد شطريها، تعهدت إصلاحات بنيوية وأصبحت أكثر قدرة على المنافسة . وتمتعت دول أخرى بازدهار الإسكان والاستهلاك على خلفية من الائتمان الرخيص، الأمر الذي جعلها أقل قدرة على المنافسة . ثم جاء انهيار عام ،2008 فاضطرت الحكومات إلى إنقاذ بنوكها، حتى إن بعضها وجدت نفسها في موقف أشبه بموقف دولة نامية أصبحت مثقلة بالديون بعملة لا تتحكم فيها . وفي ضوء تباعد واختلاف الأداء الاقتصادي بين دول المنطقة، أصبحت أوروبا مقسمة إلى دول دائنة ودول مدينة .
وعندما اكتشفت الأسواق المالية أن السندات الحكومية التي يفترض أنها بلا مجازفة قد تضطر إلى التخلف عن السداد، رفعت من أقساط المخاطر عليها بشكل حاد . وأدى هذا إلى نشوء احتمال إعسار البنوك التجارية، التي كانت موازناتها مثقلة بمثل هذه السندات، وهو ما أدى بالتالي إلى اندلاع أزمة الديون السيادية والأزمة المصرفية في أوروبا .
والآن تعيد منطقة اليورو تكرار نفس السيناريو الذي تعامل به النظام المالي العالمي مع مثل هذه الأزمات في عام 1982 ثم مرة أخرى في عام ،1997 وفي الحالتين، فرضت السلطات الدولية صعوبات كبيرة على الدول الطرفية بهدف حماية دول المركز، والآن تؤدي ألمانيا الدور نفسه من دون أن تدري .
وتختلف التفاصيل رغم أن الفكرة واحدة: فالدائنون يعملون على نقل عبء التسوية بالكامل على المدينين، في حين يتجنب “المركز” تحمل مسؤوليته عن اختلال التوازن . في بداية الأزمة، كان تفكك اليورو احتمال لا يمكن تصوره: فكانت الأصول والديون المقومة بالعملة المشتركة متشابكة ومتمازجة على نحو يعني أن أي تفكك كان ليؤدي إلى انهيار لا يمكن السيطرة عليه . ولكن مع تقدم الأزمة، أعيد ترتيب النظام المالي على طول خطوط وطنية بشكل متزايد . ثم استجمع هذا الاتجاه الزخم في الأشهر الأخيرة . وبفضل عملية إعادة التمويل الطويلة الأجل التي أدارها البنك المركزي الأوروبي تمكنت كل من البنوك الإسبانية والبنوك الإيطالية من شراء سندات بلدها لتستفيد من الفارق الضخم في الفوائد . وفي الوقت نفسه، فضلت البنوك التخلص من الأصول خارج حدودها الوطنية، ويحاول مديرو المخاطر المضاهاة بين الأصول والديون في الداخل، وليس في إطار منطقة اليورو ككل .
وإذا استمر هذا لبضع سنوات، فإن تفكيك اليورو قد يصبح في الإمكان من دون انهيار، ولكن هذا من شأنه أن يخلف لدى الدول الدائنة مطالبات كبيرة ضد الدول المدينة، وهي المطالبات التي سيكون من الصعب تحصيلها . إضافة إلى التحويلات والضمانات بين الحكومات، بلغ مجموع مطالبات البنك المركزي الألماني ضد البنوك المركزية في الدول الطرفية في إطار نظام المقاصة “تارجت2” نحو 644 مليار يورو (804 مليار دولار أمريكي) في الثلاثين من إبريل/نيسان، والآن ينمو هذا المبلغ بشكل استثنائي نظراً لهروب رؤوس الأموال .
لقد أصبح الاقتصاد الحقيقي في منطقة اليورو في انحدار مستمر، في حين تواصل ألمانيا ازدهارها . وهذا يعني أن وتيرة التباعد والاختلاف باتت في اتساع . كما تعمل الديناميكيات السياسية والاجتماعية في اتجاه التفكك . ومن الواضح أن الرأي العام، كما أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة، أصبح معارضاً على نحو متزايد للتقشف، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه إلى أن تسلك هذه السياسة اتجاهاً عكسياً .
وفي رأيي أن السلطات لديها نافذة فرصة تظل مفتوحة لثلاثة أشهر، وقد يكون بوسعها في غضون هذه الفترة أن تعمل على تصحيح أخطائها وعكس الاتجاه الحالي . وهذا يتطلب بعض التدابير غير العادية لإعادة الظروف إلى مستويات أقرب إلى الحالة الطبيعية، ولابد أن تتوافق هذه التدابير مع المعاهدات القائمة، والتي يمكن بعد ذلك مراجعتها وتنقيحها في جو أكثر هدوءاً لمنع تكرار الاختلالات .
إن منطقة اليورو تحتاج إلى اتحاد مصرفي: مخطط لتأمين الودائع الأوروبية من أجل منع هروب رؤوس الأموال، ومصدر أوروبي لتمويل عملية إعادة رسملة البنوك، فضلاً عن الرقابة والتنظيم على مستوى منطقة اليورو بالكامل . ولابد من تخفيف أعباء التكاليف عن الدول المثقلة بالديون . وهناك سبل عديدة لتوفير ذلك، ولكنها كلها تتطلب الدعم النشط من ألمانيا .
وهنا تكن المعضلة . ذلك أن السلطات الألمانية تعمل بشكل محموم من أجل التوصل إلى مجموعة من المقترحات قبل انعقاد قمة الاتحاد الأوروبي في نهاية يونيو/حزيران، ولكن كل الدلائل تشير على أنها لن تقدم سوى أقل القليل الذي قد يتفق عليه مختلف الأطراف – وهو ما يعني ضمناً مرة أخرى عملية إغاثة مؤقتة .
ولكننا أصبحنا عند نقطة انقلاب . فالأزمة اليونانية عُرضة لبلوغ ذروتها في الخريف، حتى ولو أتت الانتخابات بحكومة راغبة في الالتزام بالاتفاق اليوناني الحالي مع الدائنين . فبحلول ذلك الوقت سوف يكون الاقتصاد الألماني أيضاً قد نال منه الضعف، أي أن المستشارة أنجيلا ميركل سوف تجد صعوبة أكبر مقارنة باليوم في إقناع الرأي العام الألماني بقبول مسؤوليات أوروبية إضافية .
إذا لم يقع حادث مثل إفلاس ليمان براذرز، فمن المرجح أن تبذل ألمانيا القدر الكافي من الجهد للحفاظ على تماسك اليورو، ولكن الاتحاد الأوروبي سوف يتحول إلى كيان مختلف تمام الاختلاف عن المجتمع المفتوح الذي ألهب مخيلة الناس ذات يوم . وسوف يصبح الانقسام بين الدول المدينة والدول الدائنة دائما، حيث تظل ألمانيا مهيمنة وتتحول الدول الطرفية إلى مناطق نائية كاسدة .
ومن المحتم أن يثير هذا الشكوك حول الدور الذي تؤديه ألمانيا في أوروبا ولكن أي مقارنة بماضي ألمانيا تُعَد أمراً غير مناسب على الإطلاق . ذلك أن الموقف الحالي ليس راجعاً إلى خطة مدروسة، بل إلى الافتقار إلى خطة مدروسة . والواقع أنها لمأساة من الأخطاء السياسية . فألمانيا تمثل ديمقراطية جيدة الأداء ذات أغلبية ساحقة تؤيد المجتمع المفتوح .
إن المطلوب الآن واضح: سلطة مالية أوروبية قادرة على وراغبة في تخفيف أعباء الديون الملقاة على كاهل الدول الطرفية، فضلاً عن إنشاء اتحاد مصرفي . وقد تتخذ عملية التخفيف من أعباء الديون أشكالاً عديدة غير سندات اليورو، ومن الممكن أن تكون مشروطة بالتزام المدينين بالميثاق المالي . وسحب كل الإغاثة أو جزء منها في حالة عدم الالتزام سوف يكون بمنزلة حماية قوية ضد المخاطر الأخلاقية . إن الأمر الآن متروك لألمانيا لكي تثبت جدارتها بتحمل المسؤوليات القيادية التي يفرضها عليها نجاحها .
*نقلا عن الخليج الاماراتية