بدأت معالم استيقاظ مارد التنافس في سوق النفط تأخذ بتلابيب المهتمين، وتمسح أقوال من تحدث عن طغيان السياسة على هذه السلعة الاستراتيجية كما يمسح التلاميذ كلماتٍ كُتبت بالطباشير الجيرية على سبورة سوداء ملأها مدرس قاسٍ بمعاني أكثر قسوة، لتبدأ آثار “اليد الخفية”، حسب تعبير «أبو الاقتصاد الكلاسيكي» أدم سميث، في الظهور. وما “اليد الخفية” إلا تنافس المتنافسين، فأمام قوة وجبروت تلك اليد وقفت “أوبك” حائرةً ومنقسمةً، فقررت ألا تفعل شيئاً، إذ لم يك بمقدورها شيئاً لكي تفعله؛ فقد حاصرت “اليد الخفية” دور أوبك لتصبح أحد المتنافسين في السوق، فقد ولت الأيام الغابرة عندما كانت منظمة الدول المصدرة للنفط تُمسك السوق النفطية من قرونها لتسير بها (وتحديداً بسعر البرميل من النفط) حيث تشاء.
الآن، ثبت بما لا يدع مجالاً للاجتهاد أو التخمين ألا أحد يعرف أين ستقف أسعار النفط هبوطاً؛ إذ يبدو أن سعر 55 دولاراً للبرميل في المرمى مرحلياً، فحتى سعر 40 دولارا للبرميل في المرمى كذلك! ولا بد من الاستدراك بالقول: إن أحداً لا يستطيع الجزم أين القاع الذي سينتهي عنده هبوط أسعار النفط. ويلاحظ أن الأسعار الفورية للنفط أقل من الأسعار المستقبلية، وهذه النقطة هي محور حديثنا، فذلك سيؤدي حتماً إلى توسع نشاط تجارة شراء النفط من الأسواق الفورية وتخزينه لبيعه لاحقاً بأسعار أفضل، لكن حتى عقود “التأجيل” هذه فيها مخاطرة في حال استمرار تراجع الأسعار الفورية. ومع ذلك ففي حال استمرار السعر في التراجع فإن متوسط السعر الفوري سيكون أفضل من التعاقدات المستقبلية. ولن يلجأ لهذا الأسلوب المضاربون فقط بل حتى مستهلكي النفط بكميات كبيرة مخصوصاً مصافي التكرير ومحطات توليد الطاقة، والحكومات التي تمتلك مخازن استراتيجية!.
لماذا يتجه كبار مستهلكي وتجار النفط للشراء من السوق الفورية؟ لسببين رئيسيين؛ الأول أن القاع ليس متضحاً، والثاني أن الأسعار المستقبلية أعلى من الأسعار الحالية، وفي المحصلة فهذا تحوط ضد مخاطر ارتفاع السعر مستقبلاً بأن يشتري حالاً، ويقتنص في الوقت نفسه فرصة السعر الحالي منخفضا بما يتجاوز ما كان متوقعاً أن يُدفع. وفي المحصلة، فقد يحقق المشتري ربحاً غير متوقع في تكلفة الإنتاج – إن كان مصفاة نفط مثلاً – بما يُحسن ربحيته. ولذا، فسنجد إقبالاً أكثر على الشراء من السوق الفورية، ولن يحد ذلك النهج إلا السعة التخزينية للمشترين. ومع ذلك فهم سيمارسون ذلك بتؤدةٍ تفطنناً لاحتمال تراجع سعر النفط لما دون القاع الحالي.
ولبيان النقطة، فالسعر الفوري حالياً في نايمكس (57.81) دولار للبرميل في حين أن سعر يناير (59.17) دولار للبرميل، وسعر فبراير (59.93) دولار للبرميل، وعقود ديسمبر 2015 (62.55) دولار للبرميل. وهكذا، نجد أن السوق في حالة “تأجيل” (contango) بانتظار قاع جديد!، وحسب مقالة نشرتها رويترز بالأمس فإن على المتعاملين في السوق نسيان تصريحات أوبك ووكالة الطاقة الدولية، التي تُحدث توقعاتها هبوطاً بتتابع يبين أنها لا تملك رؤية عن سلوك سعر السلعة الاستراتيجية، وأن يركز المتعاملون على “سوق التأجيل”، فهي أفضل مؤشر استباقي للسعر، حسب مؤلفي المقالة الآنفة الذكر. وهذا، يعيدنا للفكرة الأساس وهي أن السوق النفطية بوضعها الحالي قد تمردت على السياسة وعادت لأحضان الاقتصاد وقوى السوق، التي ليس بوسع أحد أن يوجهها. وهذا يعني أن على البائعين تحمل ألم انخفاض الأسعار بانتظار خروج بعض المنافسين أو حدوث انتعاش يبتلع الفائض في السوق، ولا يمنع أن يشغل البائعون أذرعة المتاجرة لشراء وتخزين وإعادة بيع النفط الرخيص، عسى أن يحققوا أرباحاً. أما العام 2015 فهو عام المستهلك، أو عام انتظار وصول أسعار النفط لمستقرٍ لها.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-5zj