عملت الشركة على تجديد ملعب ماراكانيا، موطن كرة القدم البرازيلية في ريو دي جانيرو، لنهائيات كأس العالم 2014، وطورت واحدا من أكبر السدود الكهرومائية في إفريقيا، وبنت ميناء بقيمة مليار دولار في كوبا. لكن “أودبريخت”، أكبر مجموعة للإنشاءات في أمريكا اللاتينية، تواجه الآن خطر الاشتهار بأنها واحدة من أكبر آلات الرِّشا في تاريخ الشركات.
الأسبوع الماضي، وزارة العدل الأمريكية وصفت العملية التي تم خلالها توجيه نحو 788 مليون دولار إلى سياسيين ومسؤولين في عشرات البلدان، بأنها “رشا لا مثيل لها ومخطط لتزوير المناقصات” وفرضت جنبا إلى جنب مع السلطات البرازيلية والسويسرية، غرامة قياسية لا تقل عن 3.5 مليار دولار على “أودبريخت”.
الفضيحة التي تمر بها “أودبريخت” وتهدد بالإطاحة بكبار الساسة في البرازيل وعبر المنطقة كانت لها بدايات سرية في قسم داخل الشركة يحمل اسما له وقع عادي في الأذن هو “العمليات المهيكلة”.
في ذلك القسم – حيث تجري عملية سرية على مرأى من الجميع – كانت ماريا تافاريس، وهي سكرتيرة في الشركة، تبدأ يوم عملها، كما قالت للنيابة العامة “بتنزيل جدول بيانات يحتوي على مدفوعات (رشا) ستقدَّم خلال الأسبوع” – أساسا عبارة عن رواتب لسياسيين ومسؤولين حكوميين في بلدان تمتد من برازيليا إلى مابوتو في موزمبيق.
العملية التي استمرت لمدة عشر سنوات على الأقل ابتداء من عام 2001، كانت معقدة جدا إلى درجة أن الشركة استخدمت فيها أنظمة مستقلة للكمبيوتر والبريد الإلكتروني، مليئة بأسماء رمزية للمدفوع لهم، والمدفوعات – المعروفة باسم acarajés التي تعني كعكة الفول المقلي المحلية – وحمَلة الحقائب الذين يوصلون “الكعكة”، بل إن “أودبريخت” أنشأت متجرها الشامل الخاص بها من أجل تقديم الرشا عن طريق شراء أحد المصارف في أنتيجوا، حيث يمكن للفاسدين فتح حسابات وتلقي مدفوعات مباشرة.
المعلومات التي قدمتها تافاريس وغيرها من الموظفين العاملين في “أودبريخت”، التي تفيد بأن الشركة كانت منخرطة في عمليات رشا دولية منتظمة “وقحة”، تم الكشف عنها في إطار صفقة قانونية اتفق عليها ممثلو ادعاء من الولايات المتحدة والبرازيل وسويسرا في الأسبوع الماضي. وستدفع “أودبريخت” ما لا يقل عن 3.5 مليار دولار لمخالفاتها، بما في ذلك غرامة مقدارها 957 مليون دولار على شركة براسكيم، ذراع البتروكيماويات التابعة لها.
بمعزل عن الأرقام، تسبب اكتشاف أن واحدة من أهم الشركات في أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية كانت ترتكب مثل هذه الجريمة لفترة طويلة وفي هذا العدد الكبير من البلدان، في إحداث هزة عميقة في أركان مؤسسات الأعمال البرازيلية عن بكرة أبيها. جيلمار مينديز، وهو قاض في المحكمة العليا في البرازيل، قال لـ “فاينانشيال تايمز”، “لم يحدث قط أن أصيب النظام السياسي والاقتصادي إصابة بالغة إلى هذه الدرجة”.
ومع إجراء عديد من عمليات الدفع عبر الأنظمة المصرفية المشروعة، تثير هذه الفضيحة أيضا تساؤلات حول متطلبات الامتثال العالمية، خاصة في العالم النامي، حيث دفعت “أودبريخت” لعشرات من كبار المسؤولين الحكوميين ولم يتم اكتشاف أفعال الشركة إلا من خلال تحقيق حازم من قبل الشرطة الفيدرالية البرازيلية والنيابة العامة، بدعم من القضاة الذين شنوا حملة لا هوادة فيها.
بالنسبة إلى حكومة الرئيس ميشال تامر وجهودها لإنعاش الاقتصاد البرازيلي تشكل هذه الحلقة تهديدا. جاء تامر إلى السلطة في آب (أغسطس) 2016 بعد عزل الرئيسة اليسارية، ديلما روسيف، بسبب التلاعب في الميزانية، وبالتالي فإن المستثمرين يعولون على أجندة إصلاحية طموحة لإنقاذ ما كان قبل ست سنوات واحدا من أسرع الاقتصادات نموا في العالم، من أسوأ ركود منذ أكثر من قرن من الزمان.
وبصرف النظر عن الصفقة مع تفاريس وموظفين آخرين، التي تم الإعلان عنها في الولايات المتحدة، فإن ما يقارب 80 تنفيذيا في “أودبريخت”، بمن فيهم رئيسها التنفيذي السابق وسليل العائلة المؤسسة، مارسيلو أودبريخت، قدموا شهادات مفصلة – لم تنشر بعد على الملأ – للمحكمة العليا في البرازيل.
وتضمنت تسريبات وصلت إلى وسائل الإعلام البرازيلية أن تامر وشخصيات كبيرة في حزب الحركة الديمقراطية البرازيلية الحاكم تورطوا، بحسب الشهود، في هذه الفضيحة. لكنهم ينفون ارتكاب أي مخالفات.
وإلى جانب تحقيق موسع تجريه مجموعات إنشاء وسياسيين في فضيحة شركة النفط المملوكة للدولة “بتروبراس”، المعروفة باسم “غسل السيارات”، يعمل التحقيق في فضيحة “أودبريخت” على تغيير ثقافة الإفلات من العقاب في البرازيل. يقول سيرجيو لازاريني، وهو مؤلف كتب عن رأسمالية المحسوبية في البرازيل “الضغط الشعبي قوي جدا في البرازيل هذه الأيام ولا أحد يمكن أن يتحمل الفساد حقا بعد الآن. كل شخص لديه الإحساس بأننا كنا ضحايا سرقات كل هذه السنوات”.
عصر التوسع
إذا لخص رجل واحد الشعور بالإفلات من العقاب الذي كان سائدا في البرازيل، فإنه مارسيلو أودبريخت. حين كان بالكاد في الأربعينات من العمر، تولى قيادة تكتل أسسه جده نوربيرتو أودبريخت، وهو سليل مهاجرين ألمان وفدوا إلى البرازيل في عام 2009. توظف المجموعة 128 ألف شخص من 70 جنسية وتعمل في مشاريع تراوح بين الموانئ والسدود مرورا بشبكات المترو إلى الطرق السريعة وحتى قاعدة للغواصات النووية في بلدان مثل الولايات المتحدة وأنجولا وبنما. وكانت واحدة من الشركات العالمية الأولى في البرازيل، حيث يأتي 58 في المائة من دخلها التشغيلي من الخارج.
ازدهرت الشركة تحت قيادة مارسيلو وفي ظل حكومات يسارية لحزب العمال. وفي السنوات التي تلت إعادة انتخاب الرئيس الأسبق، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، من حزب العمال في 2006، وهو نفسه متهم في فضيحة تمويل سياسي من “بتروبراس”، ارتفعت الإيرادات الإجمالية لـ “أودبريخت” ستة أضعاف تقريبا، لتبلغ نحو 126.6 مليار ريال برازيلي “38.6 مليار دولار” عن فترة الـ 12 شهرا المنتهية في حزيران (يونيو) 2016.
مارسيلو، المهووس بالتمارين الرياضية الذي قيل عنه إنه بلغ الإدمان على العمل أنه كان يضطر إلى تدوين ملاحظة في تقويمه لتذكير نفسه أن يعانق زوجته بيلا وأطفالهما الثلاثة، حافظ على جدول أعمال مزدحم. وكان يستضيف رؤساء دول من العالم النامي في الوقت الذي كان يتآمر فيه مع مساعديه حول كيفية التأثير في المعارف السياسيين المختلفين والتلاعب في الفواتير التي تمر عبر الكونجرس، لتستفيد “أودبريخت” و”براسكيم”، بحسب وثائق قضائية. وكان قريبا بشكل خاص من لولا دا سيلفا. وسافر هو ووالده، إميليو، بصورة منتظمة مع الرئيس الأسبق، الذي نفى اتهامات بأنه تلقى خدمات من الشركة، في جميع أنحاء إفريقيا وأمريكا اللاتينية للقاء زعماء العالم.
عندما تفجرت فضيحة “بتروبراس” للمرة الأولى في عام 2014 كشفت عن شبكة مترابطة من الشركات الكبيرة وعن تمويل غير مشروع للأحزاب السياسية، وكان ينبغي أن تتسبب في حالة من القشعريرة لـ “أودبريخت”. فقد اشتملت على مجموعة من شركات الإنشاءات التي كانت تتعاون مع تنفيذيين في “بتروبراس” ومع سياسيين لتبادل رشا وعمولات للعقود. وقاد التحقيق إلى إدانة 82 شخصا – بدءا من أمين صندوق حزب العمال السابق، جواو فاكاري نيتو إلى مارسيلو أودبريخت نفسه – في محاكم الدرجة الأولى بتهم من بينها الفساد وغسل الأموال، بينما تتعامل المحكمة العليا التي تعتبر المسؤولة عن محاكمة السياسيين الموجودين في مناصبهم، مع أكثر من 74 حالة.
مع ذلك كان الشعور بالقوة عاليا في “أودبريخت” إلى درجة أن مارسيلو والتنفيذيين التابعين له لم يشعروا بأن هناك ما يدعو إلى الذعر عندما بدأت النيابة العامة التحقيق مع “بتروبراس”.
يتذكر أحد الزملاء اجتماعا سابقا تزامن مع بداية التحقيقات، بدا فيه رئيس “أودبريخت” السابق ساخطا عندما سئل عن التحقيقات وأصر على أن كل ذلك كان مجرد مؤامرة للإيقاع به والحكومة التي يقودها حزب العمال. بدا مارسيلو واثقا حتى النهاية بقدرته على تخريب التحقيقات، ومناقشة الاستراتيجيات لتنفيذ ذلك مع كبار التنفيذيين، وفقا لأعضاء النيابة العامة. حتى إنه دفع ثلاثة ملايين يورو إلى “مسؤول رفيع” في أنتيجوا مقابل رفض رسمي لتقديم معلومات عن “أودبريخت” إلى السلطات البرازيلية، وفقا للصفقة المبرمة مع الشهود.
في الواقع، ولفترة طويلة، بدا وكأن مارسيلو لا يمكن المساس به. لكن بعد ذلك، في شباط (فبراير) 2015 وصلت فضيحة “بتروبراس” إلى بابه، عندما أخبر باولو روبرتو كوستا، وهو تنفيذي سابق في شركة الطاقة، النيابة العامة أنه تلقى 31.5 مليون دولار رشا من شركة أودبريخت وأودِع المبلغ في حساب مصرفي في سويسرا. وفي حزيران (يونيو) من ذلك العام داهمته الشرطة الاتحادية في عملية أُطلق عليها Erga Omnes – مصطلح لاتيني يدل على أن القانون ينطبق على الجميع. ألقوا القبض على مارسيلو وأخذوا 11 هاتفا ذكيا من منزله. وفي آذار (مارس) من العام نفسه، حكم على مارسيلو بالسجن 19 عاما بتهمة الفساد وتهم أخرى.
بعد إلقاء القبض عليه نفى مارسيلو في البداية أي مخالفات. لكن الوزن المتزايد من الأدلة، بما في ذلك شهادة تافاريس حول وحدة العمليات المهيكلة، إلى جانب الوضع المالي المضطرب للمجموعة التي تكافح من أجل الحصول على قروض، حتى مع معاناة قسم الإنشاءات انكماش أعماله الجديدة إلى الثلث، الأمر الذي أجبره على التفاوض على صفقة أدت هذا الشهر إلى تسوية مع الحكومات الأمريكية والبرازيلية والسويسرية.
ففي مقابل تقديم شهادة أمام المحكمة العليا، سيحصل مارسيلو ونحو 80 من التنفيذيين في شركته الذين وقعوا معه على الصفقة القضائية، على أحكام مخففة. ومع أن الصفقة تعتبر مصدر ارتياح لـ “أودبريخت” ورئيسها السابق، الذي يمكن أن يطلق سراحه من السجن قبل انتهاء فترة عقوبته، إلا أن الصفقة تعمل على إحداث هزات جديدة في المشهد السياسي البرازيلي المتضرر بسبب فضيحة “بتروبراس”.
في الشهر الماضي نشرت الصحف تفاصيل شهادة مسربة تشتمل على أقوال مارسيلو وتنفيذي آخر في “أودبريخت” تزعم أن تامر سعى إلى الحصول على تبرعات سياسية حجمها عشرة ملايين ريال برازيلي في أيار (مايو) 2014 قبيل الانتخابات الرئاسية في تلك السنة. تامر الذي كان يشغل منصب نائبا لروسيف، نفى ارتكاب أي مخالفات. وأثارت التسريبات القلق بشأن بقاء تامر رئيسا للجمهورية. ويظهر الاقتصاد مؤشرات قليلة على الحياة، إذ تقلص بمعدل سنوي يقارب 3 في المائة في الربع الثالث. وأظهر استطلاع للآراء أجرته “بولسو برازيل” في الأسبوع الماضي، أن 15 في المائة من الذين شاركوا في الاستطلاع يؤيدون تامر في حين يعترض عليه 77 في المائة.
لكن محللين يجادلون بأن تامر، على خلاف روسيف، حاصل على تأييد الأسواق والكونجرس اللذين يقفان إلى صفه. فبينما استعدت روسيف للمستثمرين بتراجعها عن وعود بكبح العجز في الميزانية، بذل تامر جهودا لإقرار تعديل دستوري يقضي بتجميد الإنفاق بالمعدلات الحقيقية على مدى 20 سنة، وبدأ بتنفيذ إصلاحات صعبة في النظام التقاعدي.
يقول فرناندو شولر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة إنسبر في ساو باولو “المفارقة هي أن حكومته تفتقر افتقارا كبيرا إلى الشعبية، بالتالي ليس لديها شيء لتخسره، يتبين أنها حكومة تتصرف باقتناع وبطريقة برجماتية”.
حتمية الإصلاح
مع الغرامة التي ستدفعها “أودبريخت” بموجب الصفقة مع جهات الادعاء، التي ستجعلها تعاني من أجل دفع 3.5 مليار دولار، وعدت الشركة بفتح صفحة جديدة. وبالفعل تم إلغاء قسم العمليات المهيكلة. وقالت تافاريس للنيابة العامة كيف أنها نُقِلت فجأة في يوم واحد إلى قسم آخر من “أودبريخت”. وقالت “إن قسم العمليات المهيكلة مغلق، ولم يبق هناك شخص واحد، وقد هرب اثنان من كبار الموظفين إلى ميامي”.
والسؤال هو ما إذا كانت الصفقة القانونية مع “أودبريخت” والتحقيق في “غسل السيارات” سيمثلان نهاية للفساد المستشري الذي يؤثر في البرازيل.
يجادل كثير من المحللين بأن الفساد لن يمحى إلا حين يكون هناك إصلاح شامل لخفض تكلفة الحملات السياسية وتقليل الحوافز للكسب غير المشروع. يقول المحللون “إن النظام البرازيلي يسمح بعدد ضخم من الأحزاب – حاليا يبلغ مجموعها 35 حزبا، معظمها موجودة فقط لاستخراج مكاسب من النظام”. لكن فضيحة “أودبريخت” والتحقيق في “غسل السيارات” وضعا أخيرا، الحاجة إلى الإصلاحات على رأس جدول الأعمال السياسي.
مينديز، قاضي المحكمة العليا، يقول “أعتقد أن (التحقيق في غسل السيارات) له هذه الفضيلة: لقد جعل إصلاح النظام أمرا لا مفر منه”.