يحفل التاريخ بالعديد من المحاولات الفاشلة لإقامة ما يمكن اعتباره “المدينة المثالية”. ولكن هل من الممكن مقاومة هذا التوجه؟ الصحفي جوناثان غلانسي يستقصي ذلك الأمر في السطور التالية.
ولدت مدينة شانديغار، أكثر مدن الهند ازدهارا وتمتعا بالمساحات الخضراء، محملة بالآمال والأحلام في فترة كابوسية تعد من بين أحلك الفترات في تاريخ البلاد.
ففي عام 1947، نالت الهند استقلالها عن بريطانيا. وكجزء من ترتيبات الاستقلال، قُسمت البلاد إلى دولتين: الهند وباكستان، مما أدى إلى نزوح قرابة 14 مليون شخص من الهندوس والسيخ والمسلمين عن ديارهم لينتقلوا للعيش في مناطق جديدة.
وأفضت التوترات والخصومات العرقية إلى حدوث ما يصل إلى مليون جريمة قتل وحشية (رغم أن التقديرات تتفاوت في هذا الشأن). ونتيجة للتقسيم، باتت مدينة لاهور، العاصمة القديمة لمنطقة البنجاب، جزءا من باكستان.
ولذا قررت السلطات الهندية عام 1949 إنشاء شانديغار، لتصبح ليس فقط عاصمةً للبنجاب الهندية ولكن لتكون كذلك نموذجا لما يمكن أن تصبح عليه مدينة حديثة واعدة بالسلام والديمقراطية، وبنظام اجتماعي جديد متحرر من الانقسامات المريرة.
لكن ذلك أثار سؤاليّن: ما هو الشكل الذي يجب أن تتخذه عاصمة حديثة لإحدى الولايات الهندية؟ ومن الذي سيُناط به وضع التصميم المعماري لهذه المدينة؟ في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة تشكل بوضوح الدولة الأكثر حداثة وديمقراطية في العالم، ولذا سعى الساسة والتكنوقراط الهنود للاستعانة بالخبرات الأمريكية فيما يتعلق بتصميم المدينة الجديدة.
هنا يظهر اسم المهندس والمخطط المعماري ألبرت ماير الذي وضع تصميم مدينة نيويورك.
وقد أعد ماير، الذي كان يقدم المشورة بالفعل لجواهر لال نهرو أول رئيس وزراء للهند، مخططا معماريا لتشييد مدينة جديدة على سفوح جبال الهيمالايا، بحيث تمتزج فيها مفاهيم وأفكار مدرسة “الحركة الحديثة” في التصميم المعماري، التي تجمع بين الحداثة والجمال والتكنولوجيا، ومدرسة “المدينة الخضراء”، التي تدعو لتصميم مدنٍ مكتفية ذاتيا يحيطها حزام من المناطق الخضراء.
ولكن جاء عام 1950 بمفاجأة غير متوقعة، إذ لقي ماثيو نوفيسكي، المساعد الرئيسي الموهوب لـ”ماير” حتفه في حادث تحطم طائرة، وذلك بالتزامن مع حدوث ارتفاع متسارع في سعر الدولار الأمريكي.
ولذا بدأ نهرو ومستشاروه في البحث عن الخبرات المعمارية في مكان آخر، ليذهب وفد هندي للالتقاء مع المهندس المعماري الفرنسي – السويسري الشهير “لو كوربيوزييه” في مُحْتَرَفه الخاص بباريس.
وبعد تردد مبدئي، وافق كوربيوزييه – الذي طالما حلم بتصميم مدينة مثالية – على وضع تصميم لـ”شانديغار” ومبانيها الرئيسية.
وبعد نصف قرن على وفاة هذا المهندس المعماري عام 1965، أقام “متحف العمارة والتراث” الواقع في قصر “دو شايو” بباريس معرضا، كان من بين محتوياته صورٌ رائعة لم يُكشف عنها النقاب من قبل تُظهر الحياة في تلك المدينة الهندية، وهو ما طرح سؤالا مفاده: هل نجح كوربيوزييه في تصميم مدينة مثالية صالحة للسكن بحق؟
ويكتسي هذا السؤال بأهمية خاصة في الوقت الراهن، بالنظر إلى التنامي السريع في عدد سكان العالم، وكذلك التوجه المتزايد للنزوح من الريف إلى المدن. فهل يتعين علينا في مثل هذه الظروف تحديث وتطوير المدن القائمة بالفعل – بشكل أو بآخر – أو إصلاحها كيفما اتفق لنواكب ما يجري من تغيرات، أم ينبغي أن نُشيّد أماكن جديدة تماما صالحة للسكن؟
غير أن التاريخ يحفل بالسوابق المليئة بالنذر في هذا الشأن؛ إذ يغص بـ”المدن المثالية الفاشلة”. فبينما لا نعلم بالتحديد كيف نشأت أولى المدن على وجه البسيطة، أو أين حدث ذلك ومتى أو ما هو السبب الذي حدا بالناس للإقدام على هذه الخطوة، يبدو من الأرجح – بداية – أن تلك المدن الأولى شُيّدت ونمت على نحو تلقائي ودون تخطيط مسبق.
لكن من الواضح أنه كانت هناك لحظات في تاريخ البشرية شهدت صدور قرارات بإنشاء مدن كبرى جديدة تحتوي على نُصُبٍ وصروحٍ عظيمة؛ مدنية وعسكرية ودينية. غير أن مثل تلك المدن غالبا ما يتوقف تشييدها تدريجيا، أو يتقوض بنيانها لتتحول إلى حفنة من غبار.
مثال على ذلك عندما قرر الفرعون أخناتون تشييد عاصمة جديدة لملكه في عام 1346 قبل الميلاد، فلم يكن رعيته آنذاك مقتنعين بهذه الإيماءة الدراماتيكية من جانبه. فلم تكن “تل العمارنة” مجرد مدينة جديدة بالكامل، ولكنها مثلت كذلك رمزا لتقويض الثقافة الدينية التي كانت سائدة وقتذاك في مصر القديمة.
فقد كان أخناتون، وهو زوج الملكة نفرتيتي ووالد الملك توت عنخ آمون، قد أعلن اعتناقه لديانة توحيدية، بلور مفاهيمها بنفسه، ليطوي بذلك صفحة الآلهة التي كانت قائمة قبله في مصر الفرعونية.
وقد كان ذلك تطورا صادما، بقدر يضاهي مقدار السرعة التي شُيّدت بها المدينة الجديدة. ففي أقل من خمس سنوات، اكتمل تشييد “تل العمارنة”. وفي ضوء هذه السرعة القياسية في عمليات التشييد، تم التعجل في بناء معظم المباني بالطوب اللَبِن (الطوب الطيني).
ولم تُكس بالأحجار سوى واجهات المباني الأكثر أهمية ومكانة في المدينة. ونتيجة لذلك، هُجرت “تل العمارنة” وباتت في طي النسيان على نحو فوري، بعد وفاة أخناتون وبالتوازي مع زوال “آتون”، الإله الواحد الذي أعلن إيمانه به، وعودة الآلهة القديمة إلى الواجهة.
وبعد ثلاثة آلاف عام من ذلك التاريخ، ولكن في الهند هذه المرة، نقل الإمبراطور المغولي “جلال الدين أكبر” عاصمة حكمه من مدينة أغرا إلى مدينة أخرى تحمل اسم “فاتحبور سيكري”. وعلى النقيض مما حدث مع “تل العمارنة”، شُيّدت تلك “المدينة المثالية” على نحو بديع، فقد نُحتت بمشقة صروحها رائعة الجمال، وذلك باستخدام أحجار ذات ألوان شديدة التنوع والتعدد.
لكن ثمة نقيصة واحدة كانت تشوب المدينة ألا وهي المياه، أو بالأحرى الافتقار إليها. وهكذا فرغم كل روعتها المعمارية؛ لم تبق “فاتحبور سيكري” عاصمة مغولية سوى 15 عاما. ففي عام 1585، انتقل الإمبراطور أكبر إلى لاهور، لتصبح المدينة الحلم التي أمر بتشييدها منذ ذلك الحين، مدينة أشباح رغم بقاء مبانيها على حالها.
أما بالنسبة للمدينة المثالية التي قررت “جمهورية البندقية” تشييدها عام 1593، فلم يكن يحيطها أي جدل بخصوص الدين كما حدث مع “تل العمارنة”، أو يشوبها نقصٌ في المياه كما جرى مع “فاتحبور سيكري”.
المفارقة أن المدينة، التي أُطلق عليها اسم “بالمانوفا” لم تكن في النهاية سوى نموذج للفشل الذريع، رغم أنها كانت تبدو مثالية، فهي مدينة محصنة شُيّدت على شكل نجمة تُساعية، بها شوارع واسعة تنبثق من مركزها ذي التصميم الأنيق.
فإذا ما نحينا عناصر الجيش جانبا، سنجد أن أحدا لم يرغب في أن يستقر بهذه المدينة، التي كانت تقع على بعد 70 ميلا إلى الشمال الشرقي من مدينة البندقية؛ ما يجعلها بعيدة للغاية عن أي مركز حضري. وبلغ الأمر حد صدور مرسوم عام 1611 يقضي بالإفراج عن مجرمي “جمهورية البندقية” ممن ينوون الإقامة في “بالمانوفا”.
على أي حال نجت تلك المدينة من الدمار، ولكن برغم جمالها الرائع والأناقة النابعة من اتساق أبعاد تصميماتها، فقد بقت أقرب إلى تحفة لافتة للنظر ذات طابع فاتن منها إلى نموذج للكيفية التي ينبغي أن تُشيّد على أساسها أي “مدينة مثالية جديدة”.
فما افتقرت إليه “بالمانوفا”، مثلها مثل “تل العمارنة” و”فاتحبور سيكري”، هو التزام المواطنين العاديين – من تجار ومتعاملين في الأسواق وحرفيين – بأن يهبوا لمثل هذه المدن أنشطتهم الحضرية العادية، الكفيلة بأن تجعل تلك “المدن المثالية” مدنا حقيقية تعج بالحياة.
غالبا ما ينتهي المطاف بالخطط الرامية لتشييد “مدن مثالية” بأن تُوضع في الأدراج. ومن بين هذه الخطط، واحدة وضعها السير “كريستوفر رين” لبناء “لندن” جديدة ذات تصميم أكثر مراعاة لاحتياجات سكانها، يُستوحى فيه الطراز المعماري لعصر النهضة، وذلك بعد الحريق الكبير الذي شهدته العاصمة البريطانية عام 1666.
غير أن التجار والعاملين في المصارف والمتعاملين في سوق الأوراق المالية – ممن كانوا حريصين على استئناف أنشطتهم – لم يبدوا أدنى اهتمام بانتظار تشييد مدينة جديدة؛ ربما تتسم ببعض الصفات المثالية، التي تستدعي – على الجانب الآخر – إنفاق أموال طائلة بلا ريب. وهكذا وجدت الخطة، التي وضعها رين بنبل في هذا الشأن، طريقها إلى سجلات المحفوظات.
ولكن بضعا من هذه المدن “المثالية” كُللت مسيرتها بالنجاح؛ بشكل أو بآخر. فرغم البداية الكئيبة لمدينة سان بطرسبرغ على سبيل المثال، وهي المدينة التي شكل إنشاؤها حلما للقيصر بطرس الأكبر، فإنها نهضت من قلب المستنقعات الغاصة بالبعوض الناقل لمرض الملاريا المحاذية لبحر البلطيق، لتصبح عاصمةً لروسيا الإمبراطورية.
لكن حتى حينما حدث ذلك، سلبت موسكو من سان بطرسبرغ هذا اللقب. ورغم أن وسط هذه المدينة، المشيد على طراز القرن الثامن عشر، ذو جمال آسر؛ فإن تاريخها قاتم وسوداوي؛ تماما مثل مزاج شعرائها. بل إن تلك المدينة ظلت غير واثقة حتى من الاسم الذي ينبغي أن يُطلق عليها، فقد عُرِفت بأسماء تنوعت ما بين سان بطرسبرغ، وبتروغراد، ولينينغراد خلال حياتها القصيرة الحافلة بالأحداث المثيرة.
أما برازيليا؛ تلك المدينة الحديثة التي أمر بإنشائها الرئيس البرازيلي جوسيلينو كوبيتشيك – وتم تصميمها وتشييدها في غضون أربع سنوات فحسب (1956 – 1960) على يد المهندسيّن المعمارييّن أوسكار نيماير ولوسيو كوستا – فهي بمثابة “تحفة عجيبة ذات سمت مستقبلي”.
ورغم ذلك، فإن أبناء الطبقة العاملة القاطنين في هذه المدينة لا يعيشون في تلك المجمعات السكنية الأنيقة الواقعة في وسطها، وإنما في ما يُعرف بـ”مدن الصفيح” (الأحياء الفقيرة للغاية) التي تطوقها.
وإذا تحدثنا عن المدن البريطانية التي تتباهى بكونها الأحدث والأكثر عصرية في البلاد؛ فإننا نجد أن “ميلتون كينز”، وهي أقربها لنا عهدا من حيث تاريخ البناء وأكبرها من حيث المساحة، ربما تكون أفضل هذه المدن أيضا.
فأكثر ما يُعجب به السكان هنا، كون هذه المدينة قد صُممت بحيث تقع على شبكة طرق متنوعة ومتعددة. ولكن “ميلتون كينز” لا يمكن أن تلبي قط احتياجات من يبحثون عن نمط الحياة الذي يمكن أن توفره لندن لقاطنيها. كما أنها، مثل غالبية “المدن والبلدات المثالية”، تفتقر إلى الثراء الثقافي والتاريخي الذي تتميز به المدن التي نشأت ونمت على نحو طبيعي.
ويمكن القول إن شانديغار، مقارنة بسواها من مختلف “المدن المثالية” في العالم، تبلي بلاءً حسنا على نحو لافت، فهي تضم بين جنباتها طرزا معمارية ضخمة ومدهشة، وشبكة من الأحياء المكتفية ذاتيا، وأشجارا قد يفوق عددها ما في أي مدينة هندية أخرى، فضلا عن نمط حياة يتجاور فيه الطابعان التقليدي والمعاصر.
ومع أن التاريخ يخبرنا بأنه غالبا ما يكون من الأفضل ترك تلك “المدن المثالية” تصميمات على الورق ليس إلا، فإن “شانديغار” تشكل على ما يبدو – نموذجا لا يتكرر كثيرا ربما – على إمكانية تحقيق مدينة من هذا القبيل نجاحا على عكس ما هو مألوف ومعتاد.