سباقُ الخيول يعود إلى موطنه – كأس دبي العالمي
بقلم: محمد بن راشد آل مكتوم
تتمثل أولى ذكريات عمري في انطلاقي مسرعاً في الصحراء، ممتطياً صهوة جواد أغوص في سرجه أمام أبي المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. وأتذكر تماماً إيقاع خطوات الفرس الأبيض “صقلاوي” الذي كان أبي يؤثره، وأتذكر كيف كنت أرى الرمال والسماء أثناء الحركة المتماوجة للفرس في الخطى الواسعة عبر الكثبان الرملية، لكن أكثر ما يلح في ذاكرتي يد أبي التي كانت تلف خصري والشعور بالفرح الغامر والسكينة في روحي.
هذا هو أنا بل هؤلاء نحن. إننا شعب الخيول، تلك الخيول التي أعطت العالم الكثير عبر القرون منذ فجر التاريخ كوسيلة للتنقل ومعين في النشاط الزراعي وحراثة الحقول على امتداد كوكبنا، وكوسيلة حملت الرجال وآمال الأمم إلى الحرب، وأخيراً كرفيق لا يقدر بثمن وشريك في الرياضة، من هنا انطلقت الخيل من الجزيرة العربية، وكما أنني وشعب الإمارات نعشق الخيول وهي تنتمي إلينا.
كانت الخيل هي التي ساعدت بني البشر في الترحال، وأنقذت حياتهم في الحروب، وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم تفيد بأن الرجل يكون غنياً عندما يمتلك مهراً وبستان نخيل، لقد كانت الخيل هي ما يتطلع الرجال إلى امتلاكه، ومن يقرأ القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وسيرة النبي يسهل عليه فهم أهمية الخيل، فهي مختلفة عن كل الحيوانات.
حيث تعد مصدر بركة لصاحبها، وهي مصدر فخر لكل عربي ورمز للقوة والشهامة والسلطة، ويقول الله تعالى في كتابه العزيز »وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل« (الآية 26 من سورة الأنفال)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة” (أورده البخاري).
أبناء الصحراء يتميزون بالاعتزاز بالنفس والحصافة، والتباهي بالمشاعر علناً ليس من شيمنا، لكن الإنسان بحاجة إلى كائن ما ليفضي له بتلك المشاعر، ومن الناحية الانفعالية حظيت الحيوانات بالنصيب الأكبر من التعبير عن مشاعرنا، خيولنا وأبلنا بالنسبة للرجال والنساء على حد سواء، وكثيراً ما كنت أرى رجلاً أو امرأة يخفي جزعه لموت عزيز ومثل هذه القدرة على كظم المشاعر تكسر القلب، لكنها في الوقت نفسه أسلوب للتعبير عن التسليم بقضاء الله، وهذه القدرة نفسها على كتم المشاعر كانت تفيض دمعاً مدراراً على موت حصان أو جمل، ووراء تلك الدموع التي تنهمر بسهولة حزناً على الفقيد، يختفي شعور بالحزن وبكل المشاعر التي كظمها حزناً على من فقد ولم يستطع أن يبكي عليه.
ويتجلى في ثقافة البدو ذلك العشق الظاهر للطبيعة، فالرجال يرقصون طرباً ويتمايلون على الإيقاعات الموسيقية، كما يتمايل الجمل عبر رمال الصحراء، برشاقة من شأنها، وفق المنطق، أن تراوغ مثل هذا الحيوان الكبير والثقيل. أما النسوة اللاتي يرقصن ويهززن خصائل شعرهن يميناً ويساراً فهن يقلدن حركات رأس المهر بشعره الأسود الذي يمكن أن يغطي عينيه السوداوين النجلاوين..
حيث تظلل الغرة جبينه الواسع. لا يمكن لأي نمط من الحياة أن يمنح الإنسان هذا الطوفان من الجمال. ربما يكون هذا أهم مبادئ الاختلاف في الثقافات بين الشرق والغرب، ولهذا فإننا ندرك الجمال الطبيعي في الكائنات، لكننا لا نزال على قوة أعلى ولا نزال نسعى لتقليد الطبيعة وليس متابعة ما يصنعه الإنسان والاعتقاد بأنه حقيقي. الإنسان قد يكذب لكن أن يصدق كذبته فتلك خطيئة تدل على أعلى درجات الغباء.
وبالنسبة لي وللكثيرين ممن أعرفهم، أن الفرس هو الأكثر جمالاً بل هو الجمال المطلق، فالفرس الذي تبدو أوتاره كخيوط القوس وعضلاته المستديرة ناعمة الملمس تحت يدي يجعلني أتعجب من القوة التي يمتلكها. أما منحنيات كتفيه التي تلتقي عند صدره الناعم والمبدع فتعلوها صدارة تتوزع بين خصلات شعر متماوجة، والخيل بالغة الاختلاف عن الإبل التي لا تعد سريعة الاهتياج، وإنما هي عاطفية وحكيمة بقدر ما هي فظة ولا تعرف التسامح.
أحياناً يختار المرء ما يريد في حياته، وأحياناً ربما يتساهل لأن ما يريده قد يكون نزوة. لكن عندما تختار الحياة ما تريد من الإنسان تتحول إلى قوة طاغية. تلك هي حال العرب مع الخيل. فالتاريخ العربي غني ومليء بالتجارب هكذا بدأ ولن ينتهي ربما لأنه بدأ مع فجر التاريخ، والخط الذي اخترت أن أتبعه مغزول في حياتي، إنه الجزء من حياتي الذي منحها معناها، لقد نجح البدو مربو الخيول في الحفاظ على دم سلالة صحرائهم غاية في النقاء، واحتل المهر مكانة خاصة في حيازة البدوي.
واقتضت طبيعة الصحراء القاسية أن يكون البقاء للأقوى والأكثر لياقة، وهذا ما جعل الفرس العربية تمتلك مواصفات خاصة. ومع مرور الزمن وتحرك كثبان الرمال في الصحراء وتهادي أغصان النخيل بفعل الرياح لم يتغير العرب بل حافظوا على أصالتهم لقرون طويلة.
يتحدث البدو عن ارتباطهم بالجواد العربي، الذي يعود تاريخه إلى 3000 عام قبل الميلاد. عندما قدم »باكس« حفيد حفيد نوح عليه السلام ليأخذ فرساً يدعى »هوشابا« ومهراً تدعى “باز” من بدو الربع الخالي.
والشعر والفروسية والشهامة والكرم والشموخ كلها قيم أصيلة عند الفرسان العرب، لكن الماضي هو الماضي. وعندما اختفى الفارس العربي النبيل بقي حصانه ولم يختف، ولبعض الوقت تعرض الفرس لخطر الانقراض. وإذا تخلينا عن الاقتصاد والتقنية والريادة والخيل لغيرنا فما الذي بقي لنا؟
إنني أؤمن بقوة بعشقي للخيل بحيث إنني يمكنني أن أقول إن الذين لا يدركون سبب اهتمامنا بالخيل لا يدرون ماذا نفعل. نريد أن نستعيد ريادتنا اقتصادياً وتقنياً وتميزاً فهل هذا كثير؟
سئلت كثيراً في حياتي عما يعنيه أن يكون عندي فرس مميز، وليست هناك إجابة سهلة تستطيع أن تعبر عن السعادة التي يشعر به العربي والمسلم عندما يملك هذا الحيوان. ولعل أقرب ما يمكن أن يوضح الصورة هذه الحكاية… في قديم الزمان كانت هناك قبيلتان عربيتان هما “عبس”، و”ذبيان”.
وكان زعيم قبيلة عبس يملك فرساً مشهورة في الجزيرة العربية بسرعتها الفائقة كان اسمها “داحس”. وفي الطرف الآخر من القصة فرس لا تقل شهرة يملكها زعيم قبيلة ذبيان اسمها “الغبراء”. وكانت القبيلتان تختلفان دائماً حول أي الفرسين أسرع.
ولم يكن العرب ينظرون إلى فرسهم كسلاح لا غني عنه، بل كمصدر عز وفخار. ولن تملك فرساً من سلالة سريعة إلا إذا كان ربك راضياً عنك. وقد يخلد ذكرك في الروايات والأشعار إذا كنت تملك ذلك المخلوق العجيب. وقد ترفع فرس عظيمة فقيراً معدماً إلى مصاف الملوك، وقد تكون مغواراً شريف النفس، لكن فرسك هي الرمز الأساسي لمجدك وعظمتك.
وفي يوم السباق الموعود، ساورت زعيم قبيلة ذبيان مخاوف من أن تخسر فرسه “الغبراء” السباق، ولم يكن يحتمل أن يشاع ذلك الخبر في العرب. ولذلك قرر أن يكلف رجلين من رجاله بعرقلة “داحس”. وأعطاهما تعليمات بألا يقوما بأي حركة في حال كانت »الغبراء« في المقدمة، وأن يتحركا فقط إن اتضح أن “داحس” ستكسب السباق.
بدأ السباق، وانطلقت “الغبراء” كالسهم في المقدمة، وكانت جميع القبائل مجتمعة في حلبة السباق، وكانت تتابع بتلهف مسار الخيل، وتبعاً للخطة المرسومة عندما اقترب الفرسان من الشجيرات التي كان يتخفى وراءها الشابان من”ذبيان”، قفزا من وراء الشجرة ولوحا بأيديهما، ما أصاب “داحس” بالخوف فغيرت مسارها، وفي الوقت الذي كانت تحاول فيه التوازن وإعادة التحكم بمسارها كانت “الغبراء” قد أصبحت في المقدمة وربحت السباق.
غضب زعيم بني عبس غضباً شديداً لما حدث، وشعر بأن قبيلة ذبيان كانت وراء الحادث، وإن لم تكن هي فإنها قبيلة تغلب التي كانت في تحالف معها، وهكذا بدأت الحرب الدامية التي تعرف بحرب داحس والغبراء، والتي كانت من أشرس الحروب.
قال المؤرخون إن كفة المعارك كانت تميل من طرف لآخر لمدة أربعين عاماً إلى أن تدخل زعماء القبائل الأخرى، وكتب الشعراء الكثير من القصائد التي تدعو إلى التوقف عن القتال.
خلال الأربعين عاماً التي دامت فيها الحرب، وبعد أن فقد الآلاف فيها أرواحهم، كان الجميع يدرك أن السبب وراء اندلاعها هو دفاع كل من القبيلتين عن شرف خيلها، وهذا يظهر بشكل جلي القيمة والحب اللذين كانا لدى العرب تجاه الخيل منذ قديم الزمان، ويظهر المقاييس التي وضعت للدفاع عن الشرف.
لن يخوض العرب اليوم قتالاً لمدة أربعين عاماً من أجل الخيل، ولكن حبهم وتقديرهم للخيل لم ينقص أبداً، ولا يزال الحصان الأصيل يحظى بتقدير كبير لدى العرب، لأنه كان أباً للعديد من سلالات الخيل العربية الأصيلة.
وكان العرب البدو يقطعون مئات الكيلو مترات في الصحراء مع خيلهم غير آبهين بخطر الموت من الجوع أو العطش، وذلك كله من أجل تلقيحها من جواد أصيل، ولا تزال المهرة الأصيلة تحظى باهتمام كبير من جانب العرب، وذلك لأنها أساس السلالات من الخيل العربية الأصيلة، حيث يمكن للأم أن تلد جوهرة أصيلة، بينما يمكن للجواد الأصيل أن يحسن نوعية نسل المهرة أثناء عملية التناسل.
عندما أتخيل الفرسان النبلاء والقادة العسكريين العرب أتخيلهم ممتطين خيولهم ومنطلقين على رأس الجيوش، وينظمون قصائد بديعة تتحدث عن أفكار وقيم رائعة، ولكن تلك الأيام البطولية والمجيدة قد ولت الآن، ولم تعد الخيول العربية تحمل زعماء وفرسان عظاماً، وعندما غابت شمس البطولات العربية المجيدة والمهارة على الخيل، أشرقت الشمس على الغرب وخيوله ذات الأصول العربية، فمن المعروف للجميع أن كل سلالات الخيل الموجودة في إنجلترا هي عربية الأصل، حيث تعتبر الخيول العربية السلالة الأقدم للخيول في العالم.
وكانت تتم عملية التناسل إما من خلال الاستيلاد المباشر للخيل أو من خلال سلالات ثلاثة من أشهر الفحول عربية الأصل وهي “بيرلي تيرك” و”جودولفين بارب” (وهو الاسم الذي يشير إلى فرس من أصل مغربي، ولدت من الخيول العربية التي كانت بحوزة العرب عند فتحهم للأندلس وأيضاً يعرف هذا الفحل بـ”آراب جودولفين”)، أما النوع الثالث فهو “ديرلي أريبيان”.
وحتى في معركة “واترلو” الشهيرة التي هزم فيها دوق ويلينغتون القائد الفرنسي نابيلون بونابرت، لا يعرف الكثيرون أن رمزاً عربياً كان حاضراً هناك في ساحات المعركة، حيث ان نابليون بونابرت كان يمتطي الحصان العربي الأصيل ذا اللون الأبيض “مارينغو” في حين كان دوق ويلينغتون يمتطي الحصان “كوبنهاغن” الذي ينتمي لسلالة الفحل العربي “ديرلي أريبيان”.
وبالنسبة لجدي الشيخ سعيد ووالدي الشيخ راشد، فإن الحصان جودولفين يعود أصله إلى اكثر من 200 عام من الجزيرة العربية من منطقة الربع الخالي وتحديداً منطقة ليوا، ربما كان ذلك قبل نحو ربع قرن من مولدي، ولكن قصص السباقات لا تزال موجودة، وتروى على مر العصور ذلك لأن القصائد والقصص التاريخية ليس لها وقت أو زمان محدد.
لقد كنت استمع إلى قصص الخيل العربية القديمة مثل جودولفين أريبيان وديرلي أريبيان، وكنت أحلم بأنني ذات يوم سأربح سباقاً عظيماً للخيول وأجعل بذلك الفوز وطني وعائلتي فخورين.
وأدركت خلال زيارتي الأولى لإنجلترا في العام 1959 عندما بدأ طموحي لإعادة رياضة الخيل ذات الأصول العربية إلى وطني يكبر، وأن أضع الشرق الأوسط على خارطة السباقات العالمية من خلال إعادة السباقات لمنطقتنا ثانية.
كنت صبيا، وكان والدي الشيخ راشد قد اصطحبني معه صيفاً إلى بريطانيا. كان هناك في زيارة رسمية وذهب بداية لتسهيل إنشاء مهبط للطائرات في دبي.
كان والدي يريد أن ينشئ مهبطاً للطائرات في السبخة، موقع المطار الحالي، لأن الطائرات التي كانت تهبط في دبي كانت تهبط في منطقة الخور. ورفض الانجليز طلب والدي بحجة أن هناك مطاراً في الشارقة، حيث كانت القاعدة البريطانية آنذاك، ولذلك دبي ليست بحاجة إلى مطار.
ولكن والدي أصر على الأمر قائلاً إنه هو خير من يعرف ماذا تريد دبي، وأصر على طلبه وقد حصلنا على موافقة بإنشاء مهبط للطائرات خلال تلك الزيارة، وقد اصطحبني والدي أيضاً في جولة لمشاهدة بريطانيا، وكانت أكثر الأماكن إثارة لإعجابي “نيو ماركت” وقد اطلعني والدي على تاريخ سباقات الخيل في بريطانيا.
ربما كان الرومان أول من أقام سباقات خيل منظمة هناك، إلا أن أول سباق مسجل رسمي يعود لعام 1377 في “نيو ماركت”، ومنذ ذلك الوقت صارت المدينة تعرف بأنها مقر سباقات الخيل الانجليزية، ولعلها واحدة من أكثر الأماكن تأثيراً في رياضات سباق الخيل مثل »كنتاكي« والتي لا يضاهيها في الوقت الراهن إلا دبي.
وكان للملك تشارلز الثاني الفضل في انشاء نيو ماركت كعاصمة لسباقات الخيل وتكاثرها، إلا أن الملكة «آن »عام 1711 هي التي أنشأت أكثر مضامير سباقات الخيل الإنجليزية شهرة في “أسكوت” و”ويندسور”.
استمتعت كثيرا بمشاهدة هذين المكانين في صدر العمر، بحيث انني أردت أن أبدأ هذه الرياضة العظيمة في بلادي وأن أقدمها مجددا إلى أبناء شعبي، وعرفت حتى في ذلك الوقت أنها لا يمكن أن تكون هواية، وإنما لا بد لها أن تكون عودة إلى مكاننا الذي نستحقه كعرب. وأردت للإمارات وشعبها أن يتم تقديرهما عن المساهمة التي أمكن أن يقدمها بسباقات الخيل، وأن نعود من جديد رعاة لهذه الرياضة لأنها رياضة أجدادنا وينبغي أن تكون رياضة أبنائنا.
ولعل الميزة الرئيسية التي نشأت عليها أنا وإخوتي هي حب الخيل، وهذا إرث بدوي وعربي حقيقي، لقد علمنا والدي أن نحب الخيل كما نحب أفراد أسرتنا، وعلمنا أنه ينبغي علينا أن نمارس ونشارك في هذا الفن الرياضي لعلمه بأنه رمز الفروسية، وأدار أخواي الشيخ مكتوم والشيخ حمدان حلبات سباق خيل من اسطبلات والدي، وهما فارسان مشهوران في الجزيرة العربية، وقد تميزا بتدريبهما وبحيازتهما خيلاً مميزة، وكان للشيخ مكتوم حصان مميز جداً يقفز ممتطيا إياه وهو يجري مسرعاً.
وكان هذا الحصان لا يقبل أن يمتطيه أحد سوى الشيخ مكتوم، ورأيت عدة حوادث لهذا الحصان عندما يحاول أحد آخر ركوبه.
وكان والدي يتحقق من أنهما بدآ بمنافسة أحدهما الآخر، وبعد ذلك بدأنا بمنافسة اسطبلات أخرى في الإمارات المجاورة. ولاحقاً أصبحنا ننافس الدول الخليجية الأخرى. وكوني الابن الثالث، كان ترتيبي الثالث في اختيار الخيل. لقد كانت لدينا أفضل الخيل في جزيرة العرب، حيث كان هناك خيل رمادي يدعى “هدير” يمتلكه مكتوم، في حين أن حمدان كان يمتلك خيلاً آخر يدعى “كروان”. كانت لدى مكتوم فرس كستنائية اللون بنجمة تدعى “عودة”، وهي منحدرة من عائلة “ويدثن”. كما كان مكتوم يمتلك »أبية«، المنحدرة من سلالة “أبيان”.
وكان عليّ أن ألقي نظرة على إسطبلات الخيل التي يمتلكها أخواني وأخواتي، حيث كانت هناك فرس جميلة مصابة، ولم يكن هناك أحد يريدها، كما لم يتم اختبارها في سباقات الخيل أبداً، ولكن بعد أن ألقيت نظرة عليها، أيقنت أنها تمتلك قدرة على أن تصبح فرساً منافسة في السباقات..
وقد أسميتها “سوداء أم حلق”. ومن المعتاد عند العرب أن يضعوا قلادة ذهبية أو فضية على أعناق خيلهم التي يحبونها، مثلما تتزين المرأة الجميلة بالعقد. وكان سرج الحصان الذي نسميه “معراجا”، والمصنوع من الصوف وورق الذهب، يستخدم لجعل الفرس تبدو جميلة.
وقد علق قرط أذن “سوداء” بشيء ومزقته، ما أدى إلى انشقاق طرف أذنها اليمنى من أعلى، حيث كان القرط معلقاً، ومن هنا أتى اسمها “سوداء أم حلق”.
وذات يوم، أعلن أبي عن سباق تحضيري، يليه سباق حقيقي في جميرا بعد 4 أشهر، وحينها بدأت في التفكير بأمر الاشتراك جدياً، لذا سارعت في الذهاب إلى والدتي، طالباً منها المشورة والمال من أجل أن أذهب للسوق لشراء الأعشاب المطلوبة لأداوي بها فرسي المصابة. شرحت لأمي بتلهف عن الإصابات التي تعاني منها الفرس..
وما كان من أمي إلا أنها هرعت إلى الإسطبل وأنا أركض وراءها. انحنت والدتي أمام الفرس، وبدأت بمعاينة زوايا حوافرها ومفاصلها. نهضت أمي وقلت لها: “إنه وترها أمي، إنه كبير قدر رأسي، هذا ما علينا معالجته، لماذا تنظرين إلى المواضع الأخرى من جسدها؟”.
ابتسمت أمي، وعلمتني في ذلك اليوم أول درس لي في العلاج، حيث أشارت إلى قائمة الفرس وقالت: «هنا يكمن ألم الفرس»، واستطردت بالقول إن الألم كان سببه إرهاق الفرس بالحمولة الزائدة، أو بسبب تراكم مشكلات صغيرة أدت إلى حدوث مشكلة أكبر لديها.
شرحت لي والدتي أنه يتوجب علينا أولاً تقليم حوافر الفرس، ومن ثم وصفت لي الأدوية وهي «العنزروت» و«الموميان» و«القومان» *، ووضعت النقود في يدي، وقالت لي أن أذهب مع أحد الحراس إلى سوق الأعشاب. وقبل أن أخرج من باب المنزل، نادتني والدتي: »في طريق العودة للمنزل، زر بيت صديق أبيك واسأله عما يجب وضعه على وتر قدم الفرس ومفاصلها لتلتئم الإصابة، فمن الجيد
أن نحصل على بعض الآراء يا بني«.*
كنت أعرف أن الرجل الذي أشارت إليه أمي كان مدرباً مدهشاً، وكان بمقدوره تغيير أي جواد. وفي الأيام الأولى للقبائل المتصارعة تعين تعليم الخيل السقوط إلى الأرض وسط المعركة والتزام السكون، لكي يستخدمها فرسانها كمسند للبنادق، وكان يحارب منطلقاً على جواده.
مضيت إلى الدار، وناديت بصوت عال: »السلام عليكم« وانبعث العجوز واقفاً وقال: «عليكم السلام يا بني» وأشار لي بالجلوس وجلب لي القهوة والتمر اللذين قدمهما، فيما مضى يستفسر عن الأخبار وعن عائلتي وجيراننا. وسألني عما إذا كنت قد رأيت أياً من الطيور أو التقيت غرباء يحملون أخباراً من بعيد، جلست ومضيت أرد على أسئلته، وعندما انقضت المجاملات لزم الصمت، وتطلع إلي متوقعاً ما سأقوله. فالتقطت نفساً عميقاً وبدأت في القول: «سيدي، لقد حاربت مستخدماً الخيل من قبل، وانطلقت عليها قاطعاً مسافات طويلة، ولدي مهرة جريحة فما الذي يمكنني القيام به؟» وفيما وصفت له الجرح، استمع لي ونهض واقفاً وقال إنه لا بد أن يرى المهرة.
تبعته عائداً إلى إسطبلاتنا، وأدهشني أن أمي لا بد أنها قد عرفت ما سيفعله لأنني عندما ركضت مسرعا إلى الدار لإحضار القهوة والتمر وجدتها قد تركتهما لي خارجا وقد غطتهما بقماشة، وعندما عدت كان لا يزال عاكفا على فحص قوائم الأمهار، ثم أوضح لي أن المرء لا بد أن يأخذ الحرمل والكركم ومسحوق الزعفران الهندي والسدر.
ويتعين تجفيف الحرمل والسدر في الشمس، ثم سحقهما ليصبحا مسحوقاً ويخلط مسحوق الزعفران الهندي بالماء ويعطى للمهرة عن طريق الفم أو مخلوطا بعلفها، حيث إنه يشفي من الالتهاب.
ويتعين على المرء أن يأخذ الزعفران الهندي والسدر المسحوقين ويضعهما في وعاء ليتم خلطهما، ويضيف المرء إليهما الطحين لجعل الخليط يلتصق بالقائمة ويضيف المرء أيضا الملح لإزالة الالتهاب، ويضيف زيت الزيتون مع قدر صغير من الماء الساخن، وتوضع هذه الكمادة على القائمة يوميا لعدة شهور وتزال في الصباح.
وخلص إلى القول: “لا بد أن أمك قد أبلغتك بأن المهر بحاجة إلى استعادة التوازن؟” أومأت برأسي موافقا على وجه السرعة، ولذا ابتسم وقال: «إنني أعرف أنها ستأتي في المساء بعد الفراغ من مهامها وتوضح لك كيف تفعل هذا، فعليك بالانتباه لما تفعله والإصغاء بعناية لما تقول إنه يتعين القيام به، وتعلم كيفية تشذيب الحوافر، فما من أحد من العرب يعرف هذا خيراً منها».
أسعدني ذلك وجعلني أشعر بالفخر، لأن تلك المكونات هي على وجه الدقة ما كانت أمي قد طلبت مني شراءه، وغادرت مسرعاً إلى سوق الأعشاب المزدحم لجلب مشترياتي، وعندما عدت مضيت مباشرة إلى منطقة الطهي لإنجاز خليطي وحملته عائداً إلى الإسطبلات، وكنت في الإسطبل أضع الكمادة على قائمة المهرة عندما سمعت صراخا وصياحا من موضع الطهي وتناهى إلي صوت أمي، تأوهت عاليا فقد عرفت غريزياً أن أمي لا بد أنها قد رأت مطبخها بعد أن أعددت الدواء، وخلصت إلى أن من الخير لي البقاء في الإسطبلات بعض الوقت.
أنفقت المزيد والمزيد من الوقت في الإسطبلات، وغدوت أكثر جدية، وبصفة خاصة بعد أن أصبحت «أم حلق» تحت رعايتي، وقد عالجتها بالدواء دونما إهمال، وانحسر الورم في الأيام العشرة الأولى من إعطاء مسحوق الزعفران الهندي لـ»أم حلق« عن طريق الفم. بدت القائمة أكثر نظافة أيضا بالاستعانة بكمادة السدر، وكان الوتر لا يزال يبدو بشعاً، وواصلت وضع المسحوق عليه يومياً على امتداد ثلاثة أشهر..
كما أنني لم أتوقف قط عن المضي بها ليس في مسيرة صعبة وإنما السير بها على امتداد ساعات. وكنت قد بدأت على مهل، ولكن مع نهاية الأشهر الثلاثة انطلقنا بها خمس أو أربع مرات يومياً لمدد طويلة. وكان بمقدوري أن أرى أنها قد تحسنت حالتها كثيراً، وخمنت أن الوتر سوف يظل على الدوام بشعاً، ولكن من ألأفضل أن يكون الوتر البشع قوياً على أن يكون جميلاً وضعيفاً.
نصحني والدي بالبدء من خلال ركوب حصان طليعي معها، وقيادتها بلجام دون قطعة الفم، (ويقال لها الهتيشما وهي أقرب إلى هاكامور * فوق الأنف) بدلاً من الجزء الحديدي في الفم). البحر كان قريبًا إلى حد ما من المكان الذي عشنا فيه في زعبيل، ولذلك اعتدنا أن نغادر في الصباح ونبقى طوال اليوم على الشاطئ. كنت أضعها في مياه البحر لتسبح وأمسكها من عرفها عندما ترفع رأسها فوق الماء وأقوم بتمرينها على رمال الشاطئ البيضاء.
كنا نتغدى سويًا، هي وأنا مع أصدقائنا. وكانت تضع أنفها في أعشاب وحشائش الصحراء التي أجمعها لها كل صباح وأجلبها معنا. كانت تمضغ علفها، وتحرك فكيها وتنظر نحو الأعلى من وقت لآخر كلما انتهت من كمية من علفها، وتخفض رأسها مرة أخرى. أشارت دائماً إلى القائمة المصابة أمامها كلما تناولت علفها، مثل راقص باليه رشيق يعرج.
وعندما يحين موعد الرحيل، كنت أمتطي الحصان الطليعي وأصفّر لها، وتقوم باللحاق بي فرحة، حتى نصل إلى منطقة توجد فيها السيارات وأقوم بوضع اللجام مرة أخرى. وكان يبدو عليها الاستمتاع بالعودة إلى الاسطبلات في المساء، كما استمتعت بأيامها خارج تلك الاسطبلات. تقف بهدوء وعيونها لامعة قليلًا ويبدو عليها النعاس، بينما أنظفها من الرمال والملح، وتحرك إحدى أذنيها لتلاحظ تغييرًا في نبرة الصوت في ثرثرتي المتواصلة… أراحت قائمة خلفية وأشارت إلى القائمة المصابة في الأمام وكأنها تذكرني بأن الوجع كان هناك.
وعندما أنتهي من الكمادات والضمادات القماشية التي أحضرتها من عند والدتي، أقف هناك محاولًا عمل شيء آخر..أي عذر لكي لا أغادر سحر الإسطبلات مساءً ولكي أتجنب الذهاب إلى المدرسة في الصباح التالي.
رأى والدي هذه الأحصنة التي كان يتم إعدادها في الإسطبلات. كان الشيخ مكتوم قد أعد الفرس »عودة« المنحدر من »عائلة ويدثين«، كما كان الشيخ حمدان يعمل على إعداد “حمدانية”. كنت سعيدًا بفرسي “أم حلق” وصارت الكمادة التي كنت أضعها عليها ليلًا وكأنها فقاعة، وصار الوتر جيدًا وقويًا. مشت أكثر من الحاجة ولكني لم أكن واثقًا من حالة القائمة الآن. بدأت بجعلها تهرول وتتقدم بشكل تدريجي، حيث بدا مظهرها مثل فرس للسباق.
انتشرت أخبار التحدي في كل مكان، وجاء الكثير من البدو من كافة أنحاء الإمارات. وكان من عادات البدو أنه بعد الأخبار الطيبة أو مرحلة مزدهرة، يقوم كبير القوم أو الشيخ بتنظيم فعالية من هذا النوع. كما قلت سابقًا، كانت الحياة على درجة عالية من البساطة، وكان الالتقاء بين أعضاء المجتمع أمرًا مستحبًا ومرغوبًا جدًا وكذلك الاحتفالات للمجتمع كله. كان الالتقاء فرصة لقيام الشيخ باستضافة الجميع ومنح الجوائز للفائزين الذين قد يكونون بحاجة للمساعدة، وعمل ذلك من خلال مسابقة وتقدم تلك العطايا بلطف رائع لكي يشعر الذي يحصل عليها أنه اكتسبها، ولم تُعط له بدون تعب. كانت اللقاءات فرصة لتكوين التحالفات وتجديد الروابط التي قد تكون قد تفككت، وإن كان هناك نزاع أو شعور سيء بين الناس، فإنهم يحضرون برضاهم ويعملون على جسر الهوة، أو تتم دعوتهم كإشارة من الشيخ على أن النزاعات أو الاشكالات صارت شيئًا من الماضي.
بالنسبة للبدو، ليست هناك حدود فاصلة: هناك مساحات شاسعة ومفتوحة. هذه هي الطريقة التي نرى فيها العالم. رأى جدودي كما رأيت أنا دائمًا كيف رسم رجالٌ ليسوا أكبر أو أقل منا شأنًا على الورق، وكلما كانوا أكثر تعقيدًا، كلما كان الخط أقل وضوحًا. لم نر أبدًا الحدود على أنها شيء يوقفنا عن رؤية أنفسنا كما هي، وقد نكون في بيتنا أو في مخيم في رحلة صيد، وعندما يأتي الضيوف نشعر بالالتزام بمشاركتهم فيما نملك. والمقاربة تصبح أكثر وضوحًا عندما نسافر، حيث نصبح مقدمين للسعادة ونكوّن مواقف نمنح من خلالها حتى آخر ما عندنا، إن كان ذلك طعامًا بينما يتضور أطفالنا جوعًا. نعمل ذلك من أجل زائر أو غريب لأنهم ضيوفنا. وكلما أظهرنا لهم ذلك وكلما قدمنا لهم المزيد، كلما كنا أفضل وأكثر صدقًا مع أنفسنا.
الضيافة والتقاليد الراسخة جزء لا يتجزأ من ثقافتنا، وكما شعرت عائلتي وأبناء الإمارات أنها كانت دعوتهم للجميع، يقوم كل منزل بإعداد الطعام لرجال ونساء القبائل من الزوار. ويتم طبخ الذبائح بهذه المناسبة. وقبل أسابيع من الفعالية، تعد النساء العطور وتقوم بخلطها من أجل الضيوف بعد تناول الطعام، وكذلك البحث عن ما هو متوفر من »العود« أو البخور». أما »القصيد« (الشعر) فينظمه الرجال ويتمرنون عليه وينقحونه على أفضل وجه في مجالس المساء لتتم إلقاؤه أمام الشيخ الزائر. وقد يقوم الزوار بإرسال قصة حصان عظيم لديهم لم ينتصر عليه أي حصان آخر، ويتم تبادل رسائل النوايا الحسنة والأخوة شفهيًا ما يعزز جو الانفعال القوي.
طلب والدي آلة لتسوية قطعة من الأرض لمسافة كيلومترين على شاطئ جميرا، ونصب المتنافسون من الإمارات المجاورة خيامهم على الشاطئ ليكونوا هناك مع خيلهم. كانت نساء منطقة جميرا يحضرن الطعام للضيوف، ونظمت الأشعار للشيوخ الزوار في أجواء احتفالية، حيث رفرفت الأعلام في بداية ونهاية مسافة السباق. عملنا الكثير لتزيين المكان حسب امكاناتنا المتواضعة، ولكن الناس هم من أثبتوا إمكاناتهم، وكانت أجواء التوقع رائعة للغاية. أجواء ما قبل السباق ستبقى في ذاكرتي لبقية عمري، وآمل دائمًا إعادتها في السنوات التالية في كأس دبي، ومن قناعتي التي وصلت لها في ذلك الوقت: من أجواء الضيافة وشعور الانفعال في الصحراء الهادئة، واحتفالًا بحيوان هو جزء جوهري من هويتنا. إنه جزء لا يتجزأ من الهوية العربية والحياة البدوية.
وصلت إلى هناك قبل أسبوع من السباق. بعث بي أخواي الأكبر سناً مكتوم وحمدان لإقامة مخيم لثلاثتنا. ارتسم الامتعاض الواضح على وجهيهما عندما عرفا أنني نصبت خيامنا عند خط النهاية. كان لابد أن نكون هناك في الصباح الباكر للاهتمام بخيلنا.
في تلك الليلة، مشيت لمسافة كيلو مترين مع فرسي ممسكاً بها بحبل، متحدثاً معها عن الحدث الكبير المقبل؛ غداً ستكون فرصتنا لإثبات أنفسنا أمام والدي وجميع أصدقائه. لاحظت أن الأرض التي تمت تسويتها كانت جيدة، ولكن عند أطرافها، كانت عميقة وكأنها كثبان رملية صغيرة. لن تكون مغادرة منطقة الوسط في مصلحة المشارك بالتأكيد.
وجاء صباح يوم السباق، بعد ليلة لم يغمض لنا فيها جفن مثل الليالي الأخرى وكانت مليئة بالأحلام والترقب. استيقظت وأبعدت النوم عن عيني، ولكن عيني لم تريا بشكل واضح، فالضباب في كل مكان على شاطئ جميرا. اجتمع الشيوخ والمتنافسون لشرب القهوة وتناول التمور ومناقشة حالة الجو. رفعت »الكندورة« القصيرة بسرعة، من رأسي، وتوضأت وأديت الصلاة، ثم أسرعت إلى فرسي.
كان عليّ غسل الكمادة وإعطاء الفرس فطورها قبل أن أذهب وأستمع للأخبار. انتهيت مما كان عليّ عمله وذهبت لأجلس مع والدي، وقام أحد أصدقائه بإعطائي بعض الخبز والقهوة، بينما ابتدأ السباق! لم يكن الضباب خطراً كما قالوا، وكان بالإمكان الرؤية لمسافة خمسين متراً أمامك. كانت أعصابي متوترة ومعدتي تتقرقر! السباق بدأ!
ذهبت لإحضار فرسي لأمشي بها قليلاً قبل السباق. بين فينة وأخرى، كانت تخطو خطوة راقصة، ولكنها مشت بشكل معقول إلى جانبي. تموجت عضلاتها تحت الغطاء الأسود. قمت بتمشيط عرفها الطويل الأسود بالماء، وكانت أطرافه حمراء لأن الشمس سفعتها. كانت الخيول الأخرى تمشي وبدا لي وكأنها تراقبها كما كنت أفعل. درّب الشيخ مكتوم »العودة من الودثن«، لكنه طلب من سلومة العامري ركوب فرسه. لطالما شارك في هذه السباقات، ولكن التحدي كبير اليوم وقد اختار سلومة. كانت هناك مشاركات كثيرة، لكني كنت متأكداً أن علينا هزيمة “العودة”.
وأخيراً، طلبوا منا الركوب، وانطلقنا إلى نقطة البداية. وقف الشخص المسؤول عن إطلاق إشارة البداية حاملاً مسدسه فوق رأسه، وكندورته تتطاير في الهواء، بينما ثبتُّ عيناي على إصبعه على زناده لأفهم حركة عضلات إصبعه التي ستُطلق إشارة البدء. تحدثت بكل لطف مع »أم حلق«، وكدت أرى حركة أذنيها استجابة لما أقول. اقتربت من عنقها الكبير تاركاً مسافة للجام لكيلا أمسك بفمها عندما تتقدم نحو الأمام، وأدخلت أصابعي في عرفها الغزير، وفجأة، انطلق صوت في ضباب الصباح وسمعت هدير المشجعين على الشاطئ. انطلق السباق!
انحبست أنفاسي، وانطلقت »أم حلق« بقوة هائلة وعجيبة. ثبتُّ نفسي على ظهرها الزلق لأنني لم أستخدم السرج.. لم يكن هناك إلا »معراجة« اشتريتها لأظهر جمال فرسي. انطلقت جميع الخيل من حولي كأنها موجة عاتية، وانطلقت معها صرخات الفرسان والهتافات جاءت من كل حدب وصوب.
وبعد نحو 220 ياردة (ثمن ميل)، ثبتُّ وضعيتي ورأيت سلومة على ظهر »العودة« يختفي أمامي وكأنه شبح في الضباب. كان يبحث عن صدارة مبكرة ويستخدم الضباب كغطاء له. قررت ألا أنتظر مع الآخرين وإنقاذ فرسي وأن أطارده. كان خبيراً بما فيه الكفاية في الحد الذي بإمكانه دفع فرس الشيخ مكتوم، ولم أستطع أنا تركه بعيداً عن مدى نظري. وكزت فرسي بقدمي، وانطلقت نحو الأمام لتلحق به وكأنها في غاية السعادة بعد الوقت الذي قضته في النقاهة. شعرت بالفخر في داخلي، فما أجمل أن تطلب من حصانك شيئاً يحققه لك بكل رضا؟
كان سلومة في الصدارة بفارق خمسة أطوال. وكما ساعده الضباب في الوصول إلى الصدارة، ساعدني الآن بالزحف ببطء خلفه دون تهديده بشكل أكثر مما ينبغي. من المؤكد أنه شعر بشيء من فرسه، مع وقع الحوافر وهتافات المتفرجين التي صاحبها صوت هدير البحر الذي كاد يطغى على أي شيء آخر. نظر خلفه ليراني على ظهر فرسي، وكان رأسها قريبًا من خاصرة »العودة« وأنفاسها مسموعة من منخريها الكبيرين المُحمرين. كانت المفاجأة مرسومة على وجهه، بينما استطعت أن أخفي جلجلة ضحكتي بصعوبة بالغة.
وقد كان يفضل وسط الحلبة على الجانب الأيمن منها، وكان بيني وبين الرمال العميقة مسافة طولين. كنت أنتظر ظهور الراية وسط الضباب عندما رأيته يبدأ بالاندفاع. هل رآها قبلي؟
نظرت في ارتباك وحاولت فهم الأمر: لا بد وأن تكون الراية قريبة الآن، ثم قام بحركته بعد أن رآني أحاول القدوم من الداخل وبدأ بالانحراف نحو الرمال العميقة. وفي لحظة، رأيت الراية أيضاً، ولم يكن هناك وقت للالتفاف حوله وكان لا بد من الانطلاق قدما.
طلبت من “أم حلق” كل ما عندها وأعطتني اياه بالفعل. تخبطت في الرمال العميقة وعوضت عن المسافة التي أخذها، وتسارعت خفقات قلبي عندما صرت بجانبه، ولكن »العودة« تفوق عند المقدمة. وجاء بعدي الشيخ حمدان في المركز الثالث، ثم جاءت بقية الخيول في المراكز التالية. وكان »هدير« في المركز الرابع.
كان نصرًا رائعًا لاسطبلات والدي! لم تهزم “العودة من الودثان” في ستة عشر سباقًا. حققنا الهيمنة على جدول النتائج. شعرت وكأني ملك عندما قدم أخواي التهنئة لي، وتفحص والدي وأصدقاؤه “أم حلق” وأنا أُسيّرها. كنت ألمسها مهنئاً حتى بدأت أشعر بالوخز في يدي!
اقترب والدي مني مبتسماً، وقال: »أحسنت يا محمد. أحسنت«. تمنيت لو استمرت تلك اللحظة للأبد!
كان المساء رائعاً، وكانت الأجواء مفعمة بالطاقة والسعادة. ارتفع لهيب النار نحو السماء وشعر الرجال بسعادة غامرة وهم جالسون حولها. ورسمت الفتيات الصغيرات اللاتي ارتدين ملابسهن الملونة لوحات فنية متناسقة بحركات شعرهن على أنغام »الربابة«. أعدت أمي أطيب المأكولات، وأنا كنت أتضور جوعاً!
وخلال الاحتفالات في تلك الليلة، جلست مع الشيخ مكتوم والشيخ حمدان بالقرب من النار. وكان لكل منهما مساعدون وسلسلة من الخيول. خلصنا إلى أن الفرس أثبتت قدراتها بدون أدنى شك. وبالقرب من نار المخيم، تحدث الرجال عن التجربة وقالوا إنه لو لم أعلق في الرمال العميقة، لاستطاعت أن تهزم »العودة«. كان كلامهم صحيحًا.. كلنا عرفنا ذلك.
لم يلمني أحد، وكان الجميع يشعر بالفخر بما حققته في أول سباق لي. شعرت ببعض الندم لأنني لم أعرف، لكن ذلك لم يؤثر على موجة الفخر التي شعرت بها في داخلي عندما أضاف الشيخ حمدان الفرس إلى مجموعة خيوله. من كان يظن أن أخي الأكبر مني سنًا والذي أوقره، سيريد فرسًا رعيته أنا؟ عقدت العزم على أن أقوم بإعداد المزيد من الخيول لتتسابق ضمن مجموعة خيول أخي. لقد أثبت نفسي.
وفي تلك الليلة بعد أن خلد أخواي للنوم، قمت وذهبت لرؤية فرسي. مدت قوائمها على الرمال ورفعت رأسها لتحييني بتحية هادئة عند اقترابي منها. وقفت أمامها وتفحصت شكل النجمة البيضاء التي توسعت لتصبح على شكل شريط رفيع على وجهها الأسود. مسحت بيدي على غرتها، وأحسست بتنهداتها العميقة. انحنيت لتقبيلها على أذنها المصابة، وجلست مستنداً على بطنها لأخبرها أنها ستذهب إلى اسطبل حمدان الآن. هذه هي حياة الصحراء..الطاعة أهم من كل شيء. شرف كبير أن يختارها، ولكني شعرت بغصة في حلقي.
شكرتها مرة تلو أخرى على كل ما عملته من أجلي. تحدثت لها عن عرفاني لمشاركتها لي في هذه التجربة لأن السباق كان أكثر من مجرد فعالية رياضية. كان تدفقاً للحب والمودة نحو والدي وعائلتي من شعبي ومن القبائل والإمارات المجاورة. لم يكن هناك ما يهم أكثر من ذلك، وعرفت هناك على الشاطئ أن والدي سيحمد الله تعالى على الدعم الشعبي نفسه الذي كان يتلقاه.
وعرفت أيضاً أنه سيعتبرها إشارة إلى أنه يقوم بخدمة شعبه كما يجب عليه، وعرفت أن ذلك سيدفعه إلى بذل المزيد من الجهد. »أم حلق«، أعز صديقة في العالم بالنسبة لي، ساعدتني في إبراز قدراتي أمامه وأمام أصدقائه وأظهرت أن بإمكاني أن أتحمل أية مسؤوليات يريد مني القيام بها، ومن أجل ذلك، لن أستطيع أن أفي لها بحقها من الشكر في تلك الليلة. وأخيراً، خلدنا للنوم: نمت على بطنها، والابتسامة مرسومة على وجهي.
في اليوم التالي، انتظرت للخروج من الإسطبل بعد الآخرين بقليل. وصلت عندما عرفت أن أصدقاء أخي انتهوا من مساعدته في مهام الإسطبلات، وأرحت »أم حلق«، وقمت بتنظيفها بالفرشاة في ذلك الصباح حتى كادت تلمع من شدة نظافتها. وأعطيتها مزيجاً من الليمون المجفف والحناء مع زيت الزيتون لتشربه من أجل التخلص من وجع عضلاتها. تحسنت مشيتها، وتمشيت أنا كالطاووس في الإسطبل نحو الجزء المخصص لها، بينما اصطف الصبية على الطرفين لمشاهدتها. كان ذلك ربما بحلاوة السباق نفسه.
تأكدت من أن الرمل كان نظيفاً وموضوعاً بشكل مناسب في أركان المكان المخصص لها، ثم أدخلت »أم حلق« إليه وعانقتها قبل أن أغلق الباب. وفكرت: وماذا بعد؟ قال الشيخ حمدان إن بإمكاني اختيار حصان آخر من عنده، ولذلك توجهت لمشاهدة الأحصنة. سآخذ وقتي، فالصبر جميل، وسأشاهدها جميعاً لأعرف ما بإمكانها أن تصنع قبل أن أختار.
كنت خجولاً من ناحية طلب حصان جيد، ولم يكن هناك أحد لمساعدتي في الاختيار، وقد يضيع جهدي. قد يكون حصاناً آخر لا يثبت القدرات. وبعد أيام عدة، كنت أتابع فرساً، لم تشارك في سباقات من قبل، وكانت تعاني من مشكلة أو مشكلتين تشبهان حالة “أم حلق”، انتظرت الفرصة المناسبة عندما كان الشيخ حمدان مسروراً، وطلبت منه أن يعطيني تلك الفرس. ابتسم وأخذني إليها. كان اسمها »رومانية«، لقد عدنا إلى أجواء العمل!
هكذا بدأ كأس دبي العالمي. سباق بدأ بالشفرة المسطحة على رمال الشاطئ في دبي، وتطور ليصبح حدثاً عالمياً يتوج مكانة دبي في عالم سباقات الخيول.
عندما دخلت وإخواني في عالم سباقات الخيول العالمية، كانت الأجواء ضعيفة فعلاً. أوجدت دبي من خلال “جودلفين” و”دارلي” الوظائف وحمت صناعة سباقات الخيول إلى حد كبير من فترتين من الركود أثرتا في مناطق عديدة من العالم.
ولم يكن العمق أو العدد ما عزز من مكانتنا فحسب، بل كان أيضاً دورنا الفعال خلال عقود كثيرة في تشكيل عالم سباقات الخيول وفي نقش اسم دبي في طليعة هذه الصناعة. قمت بتأسيس صحيفة (Racing Post) وتدخلنا لإنقاذ دور »القناة الرابعة« في السباقات. إسطبلات »جودلفين« هي إسطبلات دبي ولدينا أكثر من 200 فائز على المستوى العالمي، وحوالي 200 فائز من »المجموعة 1« في 12 دولة. كما لدينا 55 فائزاً »كلاسيك« حول العالم.
هذه هي قصة جذور “جودلفين”، الإسطبلات التي بنيتها أنا وإخواني وأبنائي سوياً خلال السنوات الماضية، من فرس أسود صغير اسمها “سوداء أم حلق”. والأكثر من ذلك أن كأس دبي العالمي بدأ من قطعة أرض على شاطئ جميرا.
وفي كل عام، أشعر بأن هذا السباق هو نفسه الذي كان قبل كل تلك السنين.. هو فرصة للاحتفال وفرصة لاستضافة زوارنا من كل بقاع الدنيا وفرصة للمشاركة في الفرح والسعادة والضحك والتعبير عن الشكر. أدعو الله تعالى وآمل أن يكون لدينا فائزون من كل أرجاء العالم في كأس دبي العالمي هذا، وسيعني ذلك بالنسبة لي الشيء الكثير بالمقارنة بأي شيء آخر، لأنني أعرف أن أهلنا في الإمارات هم فائزون مرات عديدة أصلاً، وأن السباق رياضة يعتبرونها رياضتهم بكل فخر واعتزاز. إنها رياضة سيقومون برعايتها والآن يورثونها لأبنائهم وأحفادهم، كما نقلها المغفور له بإذن الله تعالى والدي إلي.