تدخل بعد أيام حزمة العقوبات الأوروبية بفرض حظر على صادرات النفط الإيراني، ما يشكل ضغوطا إضافية على الاقتصاد الإيراني المترنح تحت وطأة العقوبات السابقة، وتزداد الضغوط بسبب عوامل اقليمية، وأوضاع الاقتصاد العالمي، وتجد إيران نفسها بين خيارات الانهيار الاقتصادي، أو الاستمرار في البرنامج النووي، وترقب ضربة إسرائيلية، أو تقديم تنازلات ملموسة في مفاوضات(5+1).
وحزمت البلدان الأوروبية أمرها، وقررت منذ أيام فرض حظر على صادرات النفط الإيراني اعتبارا من بداية شهر يوليو/ تموز المقبل، وأوقفت شركات التأمين الأوروبية تغطية ناقلات النفط التي تحمل نفطا إيرانياً ما أرغم كوريا الجنوبية على وقف استيراد النفط الإيراني. كما تضغط الولايات المتحدة على كثير من البلدان للتوقف عن شراء النفط الإيراني حتى نهاية الشهر المقبل، وإلا تعرضت لعقوبات اقتصادية. وعلى الرغم من تراجع الصادرات الإيرانية بنحو أربعين في المئة منذ بداية العام الحالي، وتوقعات بفقدان أسواق جديدة فإن أسعار النفط تتأرحج عند أدنى مستوى لها منذ نحو عامين.
قطاع النفط يترنح تحت تأثير العقوبات
تشير معظم التقارير إلى أن انتاج إيران تراجع كثيرا في العقد الأخير بعد فرض عقوبات على الشركات التي تستثمر في قطاع الانتاج، وهوى الانتاج من نحو 6 ملايين برميل يوميا قبل الثورة الإسلامية إلى نحو (3.5) مليون برميل يوميا حاليا، على الرغم من وجود مخزونات مؤكدة تصل إلى 137 مليار برميل.
وتهدف الإجراءات الأوروبية إلى تشديد الخناق على إيران، وارغامها على التخلي عن برنامجها النووي، وإلا واجهت خطر الانهيار الاقتصادي، وتعد سلة العقوبات الأخيرة الأقوى منذ بدء فرض عقوبات قبل سبع سنوات. وتكمل العقوبات حظرا مصرفياً منذ سنة ونصف السنة حرم إيران من الحصول على نحو 155 مليار دولار هي حصيلة عائدات نفطها منذ بداية العام 2011، ما اضطرها إلى مقايضة النفط بمواد استهلاكية أو قبول الدفع بالعملات المحلية.
وأفاد أحدث تقارير الوكالة الدولية للطاقة بأن صادرات النفط الإيراني تراجعت منذ بدء الحظر التدريجي في الأشهر الستة الأخيرة بنحو أربعين في المئة إلى (1.5) مليون برميل يومياً، وأشارت تقارير إلى أن إيران لجأت إلى تخزين قسم كبير من نفطها الخام في ناقلات نفط عملاقة تفاديا لخفض الانتاج، لكن محللين يتوقعون مزيدا من التراجع في الصادرات في النصف الثاني من العام الحالي بنحو 60 في المئة مقارنة بذات الفترة من العام الماضي. وتنفي السلطات الإيرانية أي تراجع في الانتاج والصادرات وتقول إنها تنتج نحو(3.8) مليون برميل يوميا تصدر منها (2.1) مليوناً، لكن الأنباء في الأسابع الأخيرة تشير إلى عكس ذلك فقد أعلنت تركيا، نيتها خفض وارداتها بنحو الخُمس، وذكرت الهند أنها سوف تخفض مشترياتها بنحو 11 في المئة، واليابان بنحو 65 في المئة، وتوقفت كوريا عن الاستيراد، فيما قررت الصين زيادة صادراتها بنحو 5 في المئة. كما أن عملاء في السوق النفطية يشيرون إلى أن إيران اقترحت على عدة مشترين الدفع لاحقا بعد التسليم، وحسومات تصل إلى 20 دولارا للبرميل الواحد.
التأثيرات الاقتصادية
تزود عائدات النفط والغاز الخزينة الإيرانية بنحو 80 في المئة من وارداتها من العملات الأجنبية، ويبدو التأثير واضحا من العقوبات السابقة، فقد فقدت العملة الإيرانية أكثر من نصف قيمتها في الأشهر الأخيرة، وارتفع عدد المواطنين تحت خط الفقر إلى نحو 45 في المئة، مع ارتفاع التضخم وأسعار السلع الأساسية. ومع دخول سلة العقوبات الجديدة وفقدان أسواق جديدة تتوقع تقارير تراجعا كبيرا في مؤشرات نمو الاقتصاد، وتضاعف أعداد الفقراء.
ومما زاد مشكلات إيران قرار استبعاد المصرف المركزي الإيراني، و37 مصرفا إيرانيا من استخدام نظام سويفت، منذ منتصف مارس/آذار الماضي، في سابقة هي الأولى من نوعها تاريخ العلاقات بهذا النظام المصرفي مما حرم إيران أي تحويلات بالدولار واليورو، ويزيد من مشكلات تغطيتها لمستورداتها، فحسب خبراء لا تكفي الاحتياطات الحالية لتغطية المشتريات إلا لفترة من عشرة أشهر، كما يعمق هذا الإجراء أزمة السيولة، ويزيد من تراجع العملة الوطنية.
الاقتصاد العالمي وعوامل أخرى تلعب ضد طهران
يتزامن تنفيذ الحظر على صادرات النفط الإيراني مع مخاوف كبيرة من انعكاسات أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، وتراجع نمو الاقتصاد العالمي الذي امتدت آثاره إلى الصين في هذه المرة. وفي آخر تقاريرها خفضت وكالة الطاقة الدولية توقعاتها لنمو الطلب العالمي من( 1.1) مليون برميل يوميا إلى 800 ألف برميل يوميا، كما يتواصل ارتفاع انتاج النفط في العراق، وعاودت ليبيا حجم الانتاج السابق قبل ثورة 17 فبراير/شباط. وتشير أحدث البيانات الأمريكية أن مخزونات النفط في الولايات المتحدة ارتفعت إلى أعلى مستوى منذ أكثر من عشرين عاماً. ويبدو أن المراهنة الإيرانية على التعويض بارتفاع أسعار النفط في حال فرض حظر على صادراتها لم تكن في محلها، فالأسعار تراجعت كثيرا في الشهرين الأخيرين، ولم تتخذ أوبك قرارا بخفض الانتاج لوقف تدهور الأسعار، إضافة إلى تخوف المستهلكين جراء الغاء التأمين على ناقلات النفط الإيراني. وعلى العكس تجد طهران نفسها مضطرة إلى إجراء حسومات وخاصة للصين أكبر مستورد لنفطها، وربما تعقدت الأمور مع دخول العقوبات الأمريكية بحق مستوردي النفط الإيراني نهاية الشهر المقبل حيز التنفيذ.
ولعل الأهم أن انتاج السعودية واصل نموه واستقر عند أعلى مستوى له منذ نحو ثلاثة عقود، ووصل انتاجها اليومي إلى نحو (10.4) مليون برميل، وما فتئت تبدي استعدادها لتعويض أي نقص في السوق النفطية عبر وجود طائقة زائدة تقدر بقرابة (2.5) مليون برميل، كما عارضت في اجتماع أوبك الأخير خفض مستوى الانتاج الحالي المقدر بـ 30 مليون برميل، علما أن الانتاج يزيد عن هذا المعدل بنحو مليوني برميل يومياً. ويبدو واضحا أن السعودية وإن لم تختر المواجهة المباشرة مع الجمهورية الإسلامية، فإنها تساعد المجتمع الدولي في تقويض أسس الاقتصاد الإيراني في حال عدم تخلي طهران عن طموحها النووي. ويشير خبراء إلى أن الرياض مستعدة لتحمل انخفاض النفط إلى ما دون ثمانين دولارا لعدة أشهر، لممارسة مزيد من الضغط على إيران وروسيا اللتين تحتاجان إلى أسعار مرتفعة من أجل تغطية نفقات الموازنة، فالموازنة الروسية بنيت على أساس سعر 115 دولارا للبرميل، بينما تحتاج إيران إلى أسعار لا تقل عن 117 دولارا.
وفرة السوق النفطية ومحدودية الرد الإيراني
أغلب الظن ألا يؤثر حظر صادرات النفط الإيراني على السوق العالمية، كما أن اللاعبين الرئيسيين في أوبك يؤكدون استعدادهم لتغطية أي نقص في المعروض. وتملك بلدان أخرى مثل الكويت والامارات فوائض انتاجية جاهزة في حال الحاجة. ويستبعد خبراء أن تقدم طهران على القيام بمغامرة عسكرية باغلاق مضيق هرمز الحيوي للسوق العالمية، فالولايات المتحدة أرسلت في بداية العام الحالي رسائل قوية تحذر إيران من مغبة هذا العمل. وتكاد تنحصر الردود الإيرانية في مقاطعة المفاوضات بشأن ملفها النووي في إطار (5+1)، والبحث عن طرق للالتفاف على الحظر والعقوبات. لكن الخيار الأول يعني مواصلة العقوبات الاقتصادية والمالية وتشديدها، وربما يفتح المجال أمام ضربة عسكرية إسرائيلية، فيما يبدو أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يشددان يوما بعد آخر العقوبات على القطاع النفطي والقطاعات الاقتصادية الأخرى، بما لا يترك لإيران مجالا إلا الاختيار بين استمرار المشروع النووي أو التدهور الاقتصادي الشامل وارتفاع النقمة الشعبية ضد النظام. وفي انتظار النتائج فإن العالم يشهد حربا من نوع جديد هي حظر الصادرات النفطية في وجه طموحات إيران النووية، وهي حرب إرادات تتداخل فيها الصراعات الإقليمية والدولية، مع المشكلات الاقتصادية.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-2tV