يأتي المؤلف السابع، كتاب “البكاء المفرح”، الذي صدر مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ضمن نتاج الكاتب والتشكيلي الفلسطيني محمد السمهوري الإبداعي ليقدم تقنية رشيقة في كتابة السيرة من خلال “أماكن وشخوص تقاطع وتقاطعت مع تجربته”، ليشكل نصاً حول علاقات وأزمنة متشابكة، قد تبدو عسيرة، لكن السمهوري نفث فيها ببراعة روحاً صوفية نقية، مشكلاً دائرة الحياة التي عاش أو يحب أن يعيش.
يقول السمهوري في كتابه: “هذه سيرتي الشخصية، فارغة اكتبوها أنتم.. ضعوا خبرتكم في زمني، اكتبوا أيضا وصيتي، وعنوان مدينتي المفضلة، واكتبوا نعاسي حول أعينكم، اكتبوا معنى جدواي، اكتبوا أن هوايتي الصلاة قرب النهر.. لا نهر لي”.
وينهل السمهوري من فيض الشخصيات الخصبة التي اندمج وتماهى معها في مراحل مختلفة من تجربة المشاء المثقف، أولئك المقربون أو الذين تقاطعوا مع الكاتب في مراحل مختلفة، يشيرون له دوما بأنه “سمهوري”، وكأن اسمه تحول إلى مصطلح، إشارة ضمنية لمثقف من نوع آخر، مثقف مشاء، صعلوك مخضرم، قناص إبداع، يبعن البهجة رغم ركام “الزينكو”، وقادر دوماً على صناعة الدهشة. كل ذلك يوثق له السمهوري بحرفية عالية، لكنه يستند إلى الصوفي الذي يختزل في داخله، ليقدم نصاً شيقاً، وكالعادة صادقاً.
يقول: “كنت من خلال المشي وباعتباري مشاء محترف سابقا أريد أن أقول إن المدينة ليست شوارع ولا بيوتا، المدينة أناس يمشون في الشوارع وفي دواخلهم، وفي أحلامهم”.
فكرة العمل تبلورت في عام 2009 عندما اختار بيروت ملاذاً مؤقتا بعد سنة وصفها بالكبيسة، فقد الأخ وثُكل برحيل الأم، ومن ثم فقد العمل معلنا انتهاء رحلة عمرها عقد في الإمارات. في بيروت تآلف السمهوري مع المكان بسرعة أدهشت أصحاب المكان المفترضين، الرطوبة هي عينها، الموجة هي عينها، هو الخط الواصل مع مدينته يافا التي اقتلع منها قبل الولادة.
ويصف في كتابه بيروت قائلاً “بيروت تغير ملابسها. تستبدل النوم بالنهار. تزيح الستائر عن الشرفات، تدعو الشمس إلى فنجان قهوة مغلي على نار المحبة، لا نار الاكتواء. أستعيد وعيي الذي تركته مساء في الحانات، وبين الأصدقاء، وفي العناوين الرئيسية لآخر الأخبار”.
تدوين يوميات بيروت وشخوصها من المقيمين والزوار كان المرحلة الأولى من “البكاء المفرح” لكن حنكة السمهوري، وضيقه من الأفكار المعلبة، حتى إن كانت مدينة امرأة بقامة بيروت، دفعته لتجليات الأمكنة التي زار والأمكنة التي تقاطع معها عبر صداقاته وشخوص تماهى معها، لينقل القارئ إلى رحلة استثنائية ورشيقة ومبهرة، من دارفور التي وثق بعدستها ضحكات أطفالها إلى تنبيكتو التي لم يزر لكنه تقاطع مع الطوارق وشالات الرجال الزرق التي كثيراً من يحتشي بها. قائمة الأماكن والمدن غزيرة وصادقة وغير مفتعلة، يناجي نيويورك متمنياً أن يراها خارج رحم السينما، يعرج على خورفكان على الساحل الشرقي للإمارات، حيث تلمس طفولة الشاعر أحمد راشد ثاني، الذي رحل قبل أيام من صدور المؤلف.
يجول نابولي ويحاكي زيورخ ويمر باليمن يحتضن البحرين يستنشق دمشق ينتشي في ميدان التحرير، يعرج على الجزائر، يتحفظ من سنغافورة، يهنئ في الدوحة، دبي الشارقة أبوظبي متوالية من نوع آخر. يؤمن بالأمكنة ويعول على تأنيثها، كما وصى ابن عربي الذي يحب.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-Qz