ألمانيا قاطرة الاتحاد الأوروبي الاقتصادية، عبارة طالما ترددت عند الحديث عن الدور الأوروبي لألمانيا في السنوات التالية لتطبيق معاهدة شينغين للوحدة الأوروبية عام 1995، غير أن هذه العبارة أصبحت الآن بفعل متغيرات عديدة جزءا من الماضي بعد تحول ألمانيا الغنية وذات الاقتصاد القوي والمسيطر على منطقة اليورو، إلى فرض شروطها على شركائها الأوروبيين وتقييدهم بسياسات تفرضها عليهم لقاء منحهم مساعدات وقروضا.
وفي كل الإجراءات الاقتصادية المصاحبة لمسيرة الوحدة الأوروبية برزت ألمانيا كمستفيد، فهي المستفيد الأكبر من إطلاق اليورو عام 2002 ، وحتى خلال أزمة الديون السيادية المتفاقمة التي تعصف بمنطقة اليورو وتهدد بانهيارها، جنت ألمانيا مكاسب طائلة ناهزت 167 مليار يورو، ربحتها من أخذها قروضا من الأسواق المالية بفائدة منخفضة، وبيعها بعد ذلك بفائدة مرتفعة لدول اليورو المتعثرة.
وكرس هذا الواقع الجديد ألمانيا كمتحكمة بالسياسة المالية والنقدية لمنطقة اليورو، وكمسيطرة من خلال الاقتصاد على أوروبا، وهو ما فشلت ألمانيا النازية في تحقيقه بالحديد والنار.
السيطرة الاقتصادية
يقود الاقتصاد الألماني أوروبا ويوجهها خاصة في زمن الأزمة حيث يحتل المركز الرابع عالميا من حيث الناتج المحلي الخام بعد كل من أميركا والصين واليابان، كما يتمتع الألمان بقوة شرائية عالية المستوى ويميل المجتمع الألماني بطبعه إلى الادخار بنسب هي الأعلى عالميا تبلغ 35.11% (مقارنة بنسبة 2% أميركيا).
ويعتمد الاقتصاد الألماني بالأساس على قطاع التصدير الذي يتمتع بميزة تنافسية عالية ويساهم بنسبة ٤٠% من الناتج الإجمالي المحلي. ولعل ما يجنيه الألمان من ثناء على أداء اقتصادهم ما هو إلا ثمرة لسلسلة من الإصلاحات المؤلمة في سوق العمل قامت بها حكومة المستشار السابق جيرهارد شرودر، وهي الإصلاحات التي قادت إلى استقرار في الأجور بل وانخفاضها منذ اعتماد العملة الموحدة. وقد أسهمت الإصلاحات الاجتماعية في جعل ألمانيا أحد أكثر مواقع الإنتاج في أوروبا فعالية من حيث التكلفة.
كما ساهمت الإجراءات الاستباقية التي قامت بها حكومة شرودر ضمن ما يعرف بأجندة 2010، بشكل فعال في جعل الاقتصاد الألماني بمأمن من الهزات التي ضربت اقتصادات الدول الكبرى كأميركا واليابان وبريطانيا، وهذه الإصلاحات الهيكلية والاجتماعية كرفع سن التقاعد مثلا كانت ألمانيا قد طبقتها بشكل طوعي في إطار إستراتيجية بعيدة النظر وهي نفس الإصلاحات التي اعتمدتها الدول المتعثرة مؤخرا إثر تفاقم أزمة اليورو.
وإضافة لهذا فإن الموهبة العالية للعمالة الألمانية وانخفاض تكاليف وحدة العمل ناهيك عن موقع البلاد المميز في وسط أوروبا، تمثل عوامل ساعدت بجعل ألمانيا رائدة في مجالات كثيرة، كما هو الحال في النقل والإمدادات وترشيد التوزيع بنجاح، وفي الوقت المحدد عبر طرق مختصرة، وذلك باستغلال البنية التحتية الممتازة للاتصالات وشبكات النقل الجيدة.
وصفة النجاح
وفي الواقع فليس هناك سر محدد للوصفة الألمانية. فالألمان بطبعهم يحبون المثابرة للوصول إلى الهدف. كما تتبع ألمانيا سياسة ذكية في التحصيل العلمي وذلك بما يتوافق مع متطلبات سوق العمل.
فما يزيد على ٨٠% من الألمان يحصلون على شهادات مهنية ومهارات عالية تؤهلهم للاستجابة بشكل متميز لمطالب سوق العمل. ويعود الفضل في ذلك للنهج المتميز للحكومة الألمانية التي تبنت نظام التأهيل المزدوج الذي يجمع بين التعليم والتأهيل في المعاهد والشركات، للربط بين النظرية والتطبيق.
أما صناع القرار في الشركات الألمانية بما في ذلك الصغرى والمتوسطة فيتعاملون بواقعية ودهاء مع المعطيات الاقتصادية. والأمر هنا لا يقتصر بتدبير الوضع الآني، بل التفكير في المستقبل لتأمين استمرارية الشركة عبر تقييم عقلاني وقراءة متأنية للسوق لاختيار المنتوج الأنسب.
ولهذا لم تنجر الشركات الألمانية للتخلي فورا عن قطاع الإنتاج الفعلي والتوجه إلى القطاع الخدماتي والمالي، كما فعلت مثلا بريطانيا التي تؤدي الآن فاتورة غالية لاختيارها هذا, شأنها في ذلك شأن العديد من الدول المتعثرة.
وفي هذا السياق حاول المدراء الألمان التوفيق بين الحداثة والواقعية في التغيير. وهو ما جنب الشركات الألمانية ويلات الإفلاس بل وأمكنها من اكتساب المناعة اللازمة لمقارعة المد الصيني من جهة وآثار الأزمات من جهة أخرى.
ألمانيا أكبر مستفيد من اليورو
منذ اعتماد اليورو عملة موحدة والاقتصاد الألماني يسجل أرقاما قياسية الواحدة تلو الأخرى، وهذا ما يظهر جليا من خلال فوائض الميزان التجاري لهذا البلد، فاليورو يجنب الألمان كلفة التعاملات في منطقة اليورو، وهذا حافز إضافي لطلب مزيد من السلع الألمانية من قبل الزبائن الأوروبيين بل وحتى من الخارج، الشيء الذي جعل كلفة صرف اليورو التي تتمخض عن التعاملات التجارية تنخفض بنحو ٧% منذ بداية تقييم هذه العمليات باليورو.
واستطاعت ألمانيا بفضل الجودة والميزة التنافسية التي تتمتع بها سلعها مقاومة زحف الركود الذي اجتاح الدول المجاورة لها بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، وذلك بانتهاجها سياسة اقتصادية مرنة تستجيب لمتطلبات التطورات الاقتصادية مع اعتمادها على قطاع الإنتاج كنواة رئيسية، على عكس بريطانيا التي تخلت كليا عن الإنتاج لتركز على الخدمات وهذا ما جعلها عرضة للهزات المالية وما يتلوها من تداعيات سلبية على قطاع الخدمات.
واستطاعت ألمانيا كذلك ادخار أموال طائلة نظير تراجع تكاليف سنداتها الحكومية التي باتت جذابة وملاذا آمنا بالنسبة للمستثمرين، في وقت تئن دول اليورو تحت حدة ضغط هذه التكاليف نظرا لعزوف المستثمرين عن شرائها، وهذا ما يجعل عملية التمويل الذاتي شبه مستحيلة لولا تدخل البنك المركزي الأوروبي لشراء سندات الدول المتعثرة.
وتواجه ألمانيا انتقادات لاذعة من أن قوتها التنافسية في قطاع التصدير تتم على حساب الدول المجاورة، وهذا عائق كبير أمام نمو الاقتصادات المتعثرة، لذا فقد تعالت الأصوات التي تدعو الألمان لمزيد من التضامن خاصة استثمار فوائض الميزان التجاري لتشجيع الطلب الداخلي على السلع وفتح الباب أمامها لاستعادة قدراتها التنافسية.
ففي سوق العمل مثلا قامت ألمانيا في العقد الأخير بالضغط على تكاليف العمل بشكل حاد، وهذا ما أثر سلبا على الدوال المجاورة ، ففي وقت تجاوزت فيه نسب البطالة ٢٠% في إسبانيا و١٠% في فرنسا، فإنه لم يتعد مستوى 5.5% بألمانيا، بل إن هناك دراسات تتوقع أن يواصل سوق العمل الألماني تحسنه خلال الربع الأخير من هذه العام والعام المقبل.
ألمانيا تملي سياستها
تسعى ألمانيا في توظيف قوتها الاقتصادية لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بعد تخلصها من عقدة الحرب الباردة، فقد تحولت ألمانيا في وقت وجيز من شريك صامت يساهم ماديا فقط إلى عنصر فاعل في صياغة القرارات الدولية، كمعارضة الحرب على العراق والمشاركة العسكرية في كوسوفو وأفغانستان، وتسعى برلين جاهدة إلى الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن.
أما على الساحة الأوروبية فقد أصبحت ألمانيا مصدر القرارات الحاسمة كاتخاذ الآليات المناسبة لانتشال منطقة اليورو من الركود، وإنقاذ اليونان ودول أخرى في المنطقة من إفلاس محتمل ومنع تفكك العملة الموحدة.
ولا يختلف اتنان على أن اللاءات الألمانية لكل اقتراح يوناني جديد هو إشارة واضحة إلى الشركاء الأوروبيين بأن عهد التضامن والامتيازات قد ولى، وأن ألمانيا قامت بأداء واجباتها على وجه جيد وأن علي كل من تسول له نفسه الإخلال بالتوازنات المستهدفة في منطقة اليورو أن يتلاءم مع فقدان استقلاليته في اتخاذ القرارات الحاسمة وأن يقبل الإملاءات الألمانية.
إن ما حققته ألمانيا بفضل قوتها الاقتصادية يفوق بكثير انتصارات ألمانيا النازية التي كبدت البلاد وأوروبا تكلفة باهظة من حيث حجم الخسائر المادية والبشرية وما أحدثته من شروخ عميقة في العلاقات الأوروبية، وما جلبته من عار للألمان وخلقته لهم من عقدة كبيرة سعوا للبدء في التخلص منها تدريجيا بعد إسقاط حائط برلين الشهير وإتمام الوحدة الألمانية وإنهاء الحرب الباردة.
أما الإنجازات التي توصلت إليها ألمانيا الحديثة فتكاليفها ليست باهظة ولا تعتمد على القوة العسكرية وإنما تعتمد على القوة الاقتصادية البحتة. وقد استغلت ألمانيا وضعها الاقتصادي المريح نسبيا في زمن الأزمة لتحكم سيطرتها على منطقة اليورو وذلك بإملاء سياساته النقدية والاقتصادية وتقويض مجال القرارات السيادية لدول الأطراف في منطقة اليورو بما في ذلك على دول كبيرة كإسبانيا وإيطاليا وهذا ما لم تحققه بجيوش النازية الضخمة.
كما تحاول برلين أن تقف سدا منيعا أمام الزحف الصيني في أوروبا بخلق سياسة موحدة تقودها هي وفرنسا في سياق ما يسمى بالمحور الألماني الفرنسي، ولهذا ترفض ألمانيا مشاركة الصين بشكل مباشر في حل أزمة الموازنات في أوروبا.
وفي المقابل تسعى ألمانيا للحفاظ على علاقة متميزة مع الصين التي تعتبر مرتعا لشركات التصدير الألمانية.
أما بالنسبة للحليف الإستراتيجي، الولايات المتحدة، فقد فهمت الأخيرة الدرس من الرفض الألماني لتمويل حروبها كما حدث في حرب العراق، ولهذا تحاول واشنطن إشراك الألمان في العمليات العسكرية، وهذه إشارة واضحة إلى أن الدور الألماني قد أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها.
ومن جانبها تحاول ألمانيا تفادي الاستثمارات العسكرية الضخمة والمكلفة لقناعتها بأنها لا تجدي نفعا، وأن الأنسب لها هو توظيف القوة الاقتصادية كورقة ضغط على الشركاء لفرض خياراتها.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-3mm