ترتسم في أذهان الكثيرين صور نمطية عن مدينة دبي التي ذاع صيتها على المستوى الدولي، منذ تحولت لأيقونة في منطقة الشرق الأوسط، بنهضتها العمرانية والاقتصادية، وتقدمها وسرعة ارتفاع مبانيها العملاقة، التي لا تكشف إلا لمن يغوص عميقا في جذورها، أمكنة تعبق بأريج التاريخ وتتجلى له حقيقة الوضع وصولا لقصة البداية لهذه الحاضنة التي شغلت أذهان الناس وتداول الكثيرون صورها.
في الطريق من قلب المدينة وشريان حياتها وعلى امتداد شارع الشيخ زايد الذي يعتبر ممرا طويلا وواسعا وبني بطريقة فريدة تعكس ما يحققه البلد من تقدم في مجال البنية التحتية، وعلى امتداد ناطحات سحاب تسعى كل واحدة منها لحصد أفضل لقب كان سائق سيارة الأجرة الباكستاني يتطوع ليقدم لنا بإسهاب معلومات وافية عما يحيط بنا من تصميمات معمارية غاية في الروعة. تفانى الرجل بما أتيح له من معرفته وخبره عبر أزيد من 10 سنوات قضاها في هذه المهنة التي يعيل بها أسرته في لاهور أن يتحدث عن معالم المدينة.
كان محدثنا في أتم السعادة منتشيا بعيشه في هذه المدينة وبما أتيح له من رفاهية يمتن بها لصاحب عمله الجديد الذي وصفه بالرجل الصالح مالك شركة سيارات الأجرة التي يعمل فيها منذ سنوات خلت منتقلا إليها من شركة ليموزين صغيرة.
كان يقارن بين وضعه المرفه، وما يواجهه أقران له في دول مجاورة، ويكابدون من أجل تحصيل قوت يومهم من دون أن يمتلكوا حق تغيير عملهم بتلك السهولة واليسر الذي وجده في هذا البلد، وهو ما ساهم في تعزيز دخله والتفكير في العودة قريبا إلى مسقط رأسه لافتتاح مشروع جديد والبدء هناك بعد تشييده قبل فترة لبيت يأوي أسرته.
هكذا هي دبي يقول محمد واصفا مقر إقامته الحالي، بأنها تبتسم للكثيرين خصوصا للأجانب لتحقيق الحلم وتجسيد أهدافهم حسب سعتها، مشيرا إلى أنها ليست بحجم الملايين التي يحصل عليها بعضهم، وليس من ضمنها البلايين التي جناها مستثمرون حققوا هذا باجتهادهم، وببعض الذكاء مع لمسة حظ عتبت أبواب بيوتهم إلى جانب توفر مناخ التنافسية المادية وفرص نجاح أي مشروع يدر على كل صاحب نظرة ثاقبة النجاح والتطور والربح.
خط السير نحو الماضي
تجاوزنا منطقة وسط دبي التي تعد إحدى أروع الأماكن على سطح الأرض، بمحاذاة برج خليفة الشهير أطول مبنى في العالم. وغير بعيد عنه ولا يقل عمه براعة هندسية عنه يميز دُبي مشروع: «نخلة جميرا» الملهم.
لحظات وتختفي تلك الأبراج والأبنية المرتفعة لتفسح المجال لنا لمشاهدة الأفق وتقل الحركة، ويستبدل إيقاع الحياة ردائه، ليلبس كسوة الهدوء مع تراجع حركة السيارات والمركبات بوصولنا إلى حي شندغة الذي كان النواة الأولى لمدينة دبي ومقر الحاكم فيها.
المنطقة تقع في بر دبي، وتقابلها من الناحية الأخرى ديرة منطقة الرأس وتشكل مربعا واسعا يضم عدة مبان منخفضة ومتواضعة في حلتها.
في عام 1975 أنشأت السلطات نفق شندغة ليربط بين بر دبي وديرة تحت خور دبي وهو ما سهل المرور والانتقال بين الجانبين من دون الحاجة للدوران حول المدينة لاستخدام جسر آل مكتوم، وهو ما قرب المسافة بينهما.
مباني تراثية تزين المنطقة
ودعت صديقنا السائق الذي كان متأهبا لنقل مجموعة من السياح الأجانب الذين تعج بهم المنطقة، وهو سعيد بيومه ويقبل على عمله بهمة عالية وبجدية ويترقب أوان العودة لأسرته في بلاده وكله شوق لاحتضان أطفاله وبما يحمله لهم من هدايا، ويسعدهم بما جناه من رزق يعينهم على العيش في ترف مقارنة بوضع أقاربه ممن لم تتح لهم فرصة الهجرة إلى بلاد تغدق عليهم بمدخول وافر.
استقبلتنا على مدخل المنطقة عدة مباني تراثية وتاريخية أشار الدليل السياحي المتاح في المكان على زيارتها خصوصا بيت الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم، جد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي، ونائب رئيس مجلس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد أصبح متحفا بالإضافة إلى القرية التراثية المقامة بجانبه.
قرية التراث
سعت السلطات في المدينة وفي سياق اهتمامها بإبراز الجوانب المشرقة من تاريخها إلى إنشاء قرية التّراث وذلك في عام 1997م، في قلب حيّ شّندغة التّاريخيّ.
وكان الهدفُ من إنشائها استعراض أنماط الحياة التقليدية في إمارة دبي، والتّعريف بالعادات والتقاليد والمهن والحرف المحلية التقليدية. وتدريجيا أصبحت القرية مركز جذب حيوي للسيّاح المهتمين بالحياة المحلية التقليدية. خصصت فقرات عدة تنظم في اليوم الوطني، كما أن المكان وضع كأحد محاور الترويج لمهرجــان التـســوق المشـهور عالميا ويقترن كثيرا بدبي.
تتاح لزائر قرية التراث فرصة فريدة للمعايشة والاطلاع على مختلف أنماط الحياة المحلية التقليدية من ساحلية، وصحراوية، وريفية وجبلية. تعرض فيها العديد من أنواع المباني المشيدة من الحجر، وسعف النخيل، والخيم. كما يعاين الزائر بشكل حي أداء مختلف أنواع المهن التقليدية، ويشاهد «اليازرة» و «المغرافة» اللتان تعتبران طرقاً تقليدية لري المزارع، كما وتوفر القرية عيادة شعبية خلال فترة الموسوم السياحي يقوم على المعالجة فيها أطباء شعبيون توارثوا خبرات عالية في طرق العلاج الشعبي من وسم (كي)، وتجبير، وعلاج بالأعشاب، وأجواء السوق التقليدي الذي يحتوي على المهن التقليدية من صفارة، وصياغة للحلي، وحدادة، وقطانة. كما وتتوفر محلات لبيع الفخاريات، والسعفيات، والحلوى التقليدية، والألبان المجففة، والمعدات والأدوات التي استخدمها الناس في مختلف شؤون حياتهم في ذلك الوقت، كما يستمتع الزوار بأداء فرق الغناء والرقص الشعبي مثل «الرزفة» و «العيالة» و «الحربية» و «الدان»، وكذلك الرقصات المضافة إلى الموروث المحلي التي انتقلت إلى المنطقة بحكم العلاقات التجارية مع أفريقيا والتي منها «الليوا» و «الأندمي» و «الهبان»، والتي تقام عروضها
وتتوفر في القرية الكثير من المحلات التجارية المتخصصة في بيع المقتنيات التقليدية.
قصة البداية
الجائل في أرجاء القرية وخلال تفقد تلك المباني يطلع تدريجيا وعن قرب على الكثير من تفاصيل وجوانب الحياة التقليدية في دبي مما يزيد من تقديره لمن شارك في ابتكار الأفكار والوسائل والآليات التي ساهمت في قلب حياة المنطقة وتحويلها من صحراء قاحلة إلى جنة خضراء تنبثق البنايات الشاهقة من صخر أرضها لتعانق سمائها وتنير أضوائها الأفق وتتراءى وهاجة من علو شاهق.
في جناح آل مكتوم عقلت لوحة مذهبة تشرح في نبذة مختصرة قصة التحول في المدينة بالإشارة إلى أن الموقع يلقي الضوء على حياة هذه الأسرة العريقة التي ينحدر منها آل مكتوم وهم من آل بو فلاسة وهي فرع من قبيلة بني ياس حيث يعتبر الشيخ مكتوم بن بطي الفلاسي مؤسس إمارة دبي عام 1833.
تطورت المدينة بشكل ملحوظ في فترة حكم الشيخ مكتوم بن حشر آل مكتوم الذي قام برفع الضرائب عن الجمارك مطلع القرن العشرين وأصبحت بذلك دبي مركزا تجاريا مهما في المنطقة. ولخصت هذه النبذة بشكل بارز فلسفة المدينة التي سارت على هذا النهج حتى تحقيق تلك الطفرة التي شغلت بها الأنام وتحولت لمثال تحتذي بنهجه دول المنطقة في إشاعة أجواء من الحرية الاقتصادية تساهم في نهضة ونماء عواصمهم.
وهو ما جعل اللقب الذي أصبغ عليها «لؤلؤة الخليج» صفة حقيقية وليس مجرد دعاية وهمية تساهم في الترويج لها شركات علاقات عامة دولية استنادا على تراث عريق يتجلى في جنبات الحي العريق الذي كان شريانها ذات يوم.
توسع أفقي للمدينة
شهدت المنطقة اهتماما رسميا وحكوميا كبيرا خلال فترة زمنية قصيرة جدا بتشييد عدة مشاريع قامت السلطات لاحقا بإعادة ترميمها لإبراز جوانبها التاريخية ولم يكن في البدايات الأولى حينما استقر فيها الحاكم في القرن الماضي سوى عدد محدود من المباني كانت جنب أكواخ الصيادين الذين كانوا شريان اقتصاد المدينة ثم طوقتها الأسواق من كل جانب مستفيدة من الإعفاءات التي أقرتها السلطة لتنمو وتزدهر المدينة في لمح البصر وتحقق عائدات معقولة في تلك الفترة حيث كان العوز والكفاف رمزا أساسيا في كل ما يحيطها من دول.
عمليات ترميم لإعادة إحياء تاريخ المدينة
في تسعينيات القرن الماضي وضعت بلدية دبي خطة لإعادة الإنشاء والقيام بأعمال الترميم والتأهيل لمباني المنطقة لتمارس فيها الحياة اليومية بشكل اعتيادي. شملت أعمال المرحلة الأولى إحياء الممر الساحلي الواقع عليه مجموعة من المباني ذات القيمة التاريخية، وإعادة تأهيلها لوظائف معاصرة، منها بيت الشيخ سعيد آل مكتوم، وقريتي الغوص، والتراث، وبيت الشيخ عبيد بن ثاني، والعديد من المساجد التقليدية.
وفي المرحلة الثانية ومنذ عام 2005 يتولى قسم المباني التاريخية تنفيذ مشاريع الترميم للمباني، ومن أهم هذه المشروعات السوق التقليدي، وإعادة إنشاء بيت الشيخ حشر آل مكتوم، إلى جانب تصميم مشروع الحديقة التراثية.
والتي تحتوي على مجموعة من الفعاليات، والأنشطة التراثية، بالإضافة للمطعم التراثي.
أبرز معالم القرية التراثية
يعد بيت الشيخ سعيد آل مكتوم أحد أبرز معالم المنطقة ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1896 حيث كان يستخدم مقراً للحاكم ويشكل حقبة هامة في تاريخ الإمارة مما أكسبه أهمية تاريخية من الناحية الوظيفية، ثم اكتسب أهمية أخرى من الناحية المعمارية والفنية، حيث يمتاز بثراء مكوناته العمرانية وعناصره التراثية، إضافة إلى استراتيجية الموقع، حيث يشرف المبنى على منطقة خور دبي التجارية، والتي تعد الشريان الرئيسي للحياة الاقتصادية والتجارية في إمارة دبي.
وتم تنفيذ مشروع حيوي لترميم البيت في إطار المحافظة على الطابع التقليدي وتم الانتهاء من الترميم عام 1986. وإعيد إدراج المبنى ضمن البيئة المعاصرة مع تأثيث المبنى ليستخدم كمتحف للصور والوثائق التاريخية لإمارة دبي من خلال استخدام التقنيات الحديثة الملائمة من وسائل وأساليب للعرض ليكون المبنى شاهداً على حضارة دبي وتطورها التاريخي.
خلال جولتنا في المبنى الذي يعتبر حالياً نقطة جذب عمرانية وسياحية، لمسنا سمات الثقافة والإبداع المعماري والجمال الفني في المكان الذي تأهل بعد هذا الترميم الدقيق وإعادة التأهيل للحصول على جائزة منظمة المدن العربية في الحفاظ على التراث العمراني.
وتتاح للزائر فرصة معايشة والإطلاع على مسكن ومقر حاكم دبي في فترة النصف الأول من القرن العشرين، واكتشاف ما يتميز به من البساطة والاتساع، وتنوع أجنحته وفضاءآته (المغلقة، وشبه المفتوحة، والمفتوحة) وتعدد براجيله (الأبراج الهوائية). وتعرض فيه مجموعة نادرة ومتنوعة من الصور التاريخية للشيوخ وللحياة في دبي التي تغيرت بشكل جذري في الوقت الحاضر، كما وتعرض فيه مجموعة كبيرة ونادرة من الوثائق التاريخية والرسمية المتعلقة بإمارة دبي، ونماذج أصلية من الحُلي والعملات والطوابع وغيرها مما يعود لتلك الفترة الزمنية، حيث تتوزع المعروضات على تسعة أجنحةً مكونة من تاريخ بيت الشيخ سعيد آل مكتوم، وعائلة آل مكتوم، ودبي القديمة، والحياة البحرية، ومناظر من دبي، والحياة الاجتماعية في دبي، والعملات والطوابع، والوثائق التاريخية، الخرائط.
وقبل أن أختتم رحلتي في المدينة العريقة كانت صورة شاملة قد تكونت في ذهني جسدت فرصة ملهمة للتعرف على العديد من جوانب وتفاصيل الحياة والمجتمع التقليدي في دبي، إضافة إلى طبيعة العلاقة الوشيجة الراسخة بين أسرة آل مكتوم الحاكمة وشعب دبي، حيث التشابه والانسجام والتقارب بين البيت وبين ما يجاوره من مرافق، وسهولة الاتصال المباشر دون حواجز بين الناس وحكامهم.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-f25