تسعة فناجين يوميا من القهوة، أربعة صباحا وخمسة مساء، هو المعدل اليومي لرياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، الذي استطاع الوصول باحتياطيات البنك الأجنبية لمستويات قياسية عند أربعين مليار دولار وسط هذه الظروف. قد تبدو هذه الكمية من القهوة “منطقية” لرجل لا ينام أكثر من خمس ساعات يوميا.
“لا أستطيع حتى أن أتذكر آخر إجازة أخذتها، وحقيقة منذ نهاية أغسطس وحتى اليوم لم أمكث ببيتي لأكثر من عشرة أيام”.. هذا ما قاله لنا سلامة أثناء لقائنا به على هامش اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن. وعندما سألناه كيف يمكن أن يقضي يومه لو حظي بيوم إجازة دون أي إزعاج قال: أقضيه بمشاهدة الأفلام والنوم.
حال سلامة من حال كثيرين من رجال السياسة المالية والنقدية في منطقتنا والتي أرهقتهم السنوات الأخيرة ابتداء من أزمة 2008 التي لم تنته، مرورا بالتشريعات التي تزداد تعقيدا بشكل يومي من السلطات العالمية، ونهاية بأسعار النفط التي شدت أحزمة ميزانيات لطالما اعتادت على الرخاء.
“العمل المصرفي أصبح أكثر تعقيدا، مع زيادة متطلبات الجهات الرقابية والتشريعية.. الآن بسبب العمليات والمنظمات الإرهابية أصبح على البنوك مسؤوليات كبيرة جدا لرقابة كل كبيرة وصغيرة ابتداء من فتح الحساب”. يؤكد عصام الصقر، الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك الكويت الوطني، الذي تتكدس على مكتب غرفته الفندقية في واشنطن عشرات الملفات. ورغم هذه الأعباء، وعلى عكس سلامة، يبتعد الصقر كليا عن القهوة أو الشاي، فهو وسط كل هذه الضغوط لا يرغب بتوترات الكافيين.
ما عشناه خلال تغطيتنا لاجتماعات هذا العام في واشنطن، كان بالفعل مختلفا عن المرات السابقة. هناك شعور بالإرهاق لدى من اعتدنا على رؤيتهم ولقائهم منذ عشر سنوات أو أكثر. ورغم أننا كصحافيين، معتادون على وصفنا بالمزعجين، عندما لا نتوقف عن الإلحاح على المسؤولين بمنحنا بعضا من وقتهم، إلا أننا بدأنا نلتمس للمسؤولين عذرا بتفادينا. فسفرهم لا ينتهي، والاجتماعات باتت أطول وأكثر تعقيدا، وحتى حفلات الاستقبال التي غالبا ما كانت فرصة لالتقاط الأنفاس، كانت قصيرة يرتادها المسؤولون على عجل، وكأنها مسؤولية هي الأخرى.
جورج الحداري، الذي استلم الرئاسة التنفيذية لبنك “إتش إس بي سي” في الشرق الأوسط منذ أقل من عام يرى أن المصرفيين يحتاجون للحزم، ليس فقط في إدارة العمليات البنكية، إنما أيضا في حياتهم الشخصية. الحداري، يحرص على النهوض في الخامسة والنصف صباحا لممارسة الرياضة ما لم تمنعه ظروف سفره من ذلك. وبعد لقاء معنا استمر لأكثر من ساعة، وخلال استعدادنا لمغادرة فندق ذا جيفيرسون، رأيناه بلباسه الرياضي بعيدا عن سترته السوداء، ودّعنا مجددا ثم همّ بالركض بعيدا عن صخب الشارع.
في إحدى محاولاتنا لترتيب لقاء مع رئيس مجلس إدارة أحد أبرز البنوك السعودية، وبعد أيام من محاولة التنسيق مع أحد المسؤولين الإعلاميين في البنك، أجابنا بنبرة اعتذار، مؤكدا أن رئيس مجلس الإدارة دخل اجتماع استمر من الصباح حتى ساعات الليل. “لم أستطع حتى رؤيته لدقيقة واحدة” أشار صديقنا الذي شعرنا بالحرج لكثرة اتصالنا به. وبالنهاية اكتشفنا أننا لسنا وحدنا المرهقين بساعات عمل طويلة عشرات المهام التي نحاول إنجازها في وقت واحد. فعلى الأقل، وبنهاية اليوم نستطيع الاستمتاع بقطعة من اللحم المشوي، أو التسوق لساعة في ضواحي العاصمة الأميركية قبل أن ينال التعب منا، أما هم فتبقى أوقاتهم بيد الخريف الاقتصادي الذي جاء هذا العام بأبرد من خريف واشنطن.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-fPq