قصة ليغو، تعدّ “ليغو” من الشركات التي اختبرت التناقض الى اقصى حدود. فبعدما وصلت الى شفير الهاوية حيث كان الافلاس متربصاً بها عام 2000، انتقلت الى عصر النعيم انطلاقا من عام 2004؛ فمصانعها لم تعد تقوَ اليوم على مواجهة الطلب المتزايد باستمرار وباضطراد، ما يدفع بها حالياً الى تخفيف نسبة الاعلانات العالمية وتوسيع قدرة مصانعها.
فكيف تمكنت هذه الشركة العملاقة التي تركت بصماتها في ذاكرة آلاف الاطفال في العالم، من لملمة أشلائها المتناثرة في القعر، لتصعد السلم من جديد وتبلغ القمة؟
فاليوم بات لكل فيلم مخصص للاطفال او المراهقين، مجموعة من “ليغو”، منها “ستار وورز”، “هاري بوتر”، “باتمان”، “توي ستوري”، “انديانا جونز”…واللائحة تطول.
في هذا التقرير، نعرض لكم واحدة من ابرز قصص النجاح في ادارة الشركات وتبني استراتيجيات ذكية وجريئة، قادرة على احداث نقلة نوعية وتوفير آلاف فرص العمل وضمان نموّ مستدام.
في البداية، لا بدّ من التذكير ان “ليغو” أسست عام 1932، حين بدأ النجار أوليه كيرك كريستيانسن بصنع ألعاب من الخشب. في عام 1934، أطلق على شركته المنشأة حديثا اسم “ليغو”. وهي مشتقة من كلمتين دنماركيتين هما “ليغ غوت” أي “إلعب جيدا”. مذاك الحين، انتقلت الشركة من الجد – المؤسس الى الابن فالحفيد، وبقيت شركة عائلية بامتياز الى حين قررت الادارة في عام 2001، تسليم منصب الرئاسة التنفيذية الى الدنماركي يورغن فيغ كنودزتورب الذي بات اسمه على كل شفة ولسان بفضل دهائه ونظرته الثاقبة.
كان كنودزتورب الرجل الاول الذي يتولى ادارة الشركة من خارج افراد العائلة، وقد لُقّب خلال فترة وجيزة من توليه القيادة بـ”بطل ليغو”، إذ إنه تمكن من نقل الشركة الى مرحلة النجاح لا بل الى التفوق؛ فكيف تم ذلك؟
لقد آمن المستشار السابق لدى شركة ماكينزي، بأن النجاح يكمن في العودة الى القاعدة الذهبية البسيطة وهي: ما الذي يجعل “ليغو” فريدة؟ أما الجواب فكان بسيطا جدا أيضاً، وهويقول في احدى مقابلاته: “الحقيقة كانت واضحة جدا وضوح النهار،شاخصة امامنا كالشمس. لكننا كنا قد نسيناها. لم يكن أحد في الشركة يتحدث عن هذه الحقيقة. الجميع كانوا منهمكين في البحث عن ذاك الجديد الذي يجب ان نبتكره لكي نحقق أرباحاً ونجتاز الازمة. اما الحقيقة فهي انه ما من نظام بنّاء يضاهي نظام ليغو. يمكن أخذ أي قطعتين من ليغو وتركيبهما معاً وهكذا دواليك، الى ان يتم الحصول على آلاف الاشكال، تبعاً لما تمليه المخيلة. تتماشى كل القطع بعضها مع بعض. ويكفي ان يكون عمر الطفل سنة ونصف السنة، لكي يتمكن من فك القطع. إذاً المهم ايضا في الامر، ليس أن يتمكن الطفل من تركيب القطع بعضها مع بعض، فقط ، بل ان يتمكن من فكها ايضاً. وهذا يعني أن علينا كل ايام السنة، ان ننتج قطعا ذات جودة عالية”.
يمضي الاطفال في العالم مجموع خمسة ملايين ساعة من اللعب بقطع البناء “ليغو”
بعد اعادة اكتشاف هذه الحقيقة، طبق كنودزتورب القاعدة الذهبية في إدارته الاعمال وهي ان “أغلبية الشركات تموت ليس بسبب الجوع بل بسبب التخمة”. هذا المبدأ دفعه الى اتخاذ سلسلة تدابير أوقف بموجبها تصنيع الكثير من النماذج التي كانت الشركة تطلقها ما قبل توليه الرئاسة التنفيذية.
فهو يؤمن بأن لتصاميم ليغو، دورة حياة تمتد بين 3 الى خمس سنوات. هذا يعني أن كل تصميم يجب ان يكون مدروساً لكي يبقى معروضاً ومطلوباً في السوق طوال هذه المدة. بعد ذلك يصار الى اطلاق تصاميم جديدة. في المقابل، كانت ليغو تطرح كل عام مئات التصاميم الجديدة، ما يغرق السوق بالكثير من النماذج، فيضيع معها المستهلك وتصبح اللعبة التي يكون قد اقتناها وكأن الموضة قد تخطتها. بمعنى آخر، عمد الى خفض القطع المعروضة ضمن كتيب ليغو من 7000 قطعة الى 3000 فقط.
شكّل، هذا التكتيك في حصر نماذج التصنيع، حلقة من ضمن سلسلة اجراءات تقشفية حازمة خاضتها الشركة. فقد عمد كنودزتورب الى اقفال عدد من المكاتب وإيقاف كثير من النشاطات، فضلاً عن بيع مجموعة من الاعمال التجارية، الى جانب اتخاذ إجراءات أخرى ضمن المصانع.
كذلك، شدد على ضرورة التواصل الاجتماعي بين الموظفين. فلم يكن يؤمن بالتقارير التي يتم تحضيرها وفق انظمة معلوماتية. بل على العكس كان يعقد اجتماعا في السابعة من صباح كل يوم جمعة، يحضره مديرو الاقسام وبعض الموظفين الاخرين. يعرض الجميع ما تم تنفيذه خلال الاسبوع، فيما يعمد الآخرون الى تقويم النشاط عبر اعطاء علامات. ويقول كنودزتورب: “في كل مرة كنت أُسأل: متى ستوضع هذه المعلومات ضمن نظام معلوماتي؟ أما انا فكنت أجيب دوماً. لن يتم الامر أبداً. لأن مناقشة المعلومات يجب ان تتم وفق آلية اجتماعية، وليس عبر الآلات. فعندما ندوّن على اللوح الابيض رقماً يؤشر الى وضع سيّئ، لا احد يحتاج الى ان يقول لك: غير هذا الوضع. لا بل على العكس، ستباشر من تلقاء نفسك بذل كل الجهود اللازمة لتغيير هذا الوضع”.
في العامين الاولين من توليه الرئاسة التنفيذية، شدد كنودزتورب لمالكي الشركة وموظفيها على انه “رغم ان الشركات تسعى عموماً الى زيادة نسبة النموّ، لأنها تعتقد انها بهذه الطريقة ستحقق الارباح، لن يتم تحقيق اي نموّ يذكر في ليغو، بل سنعيد لملمة الحطام. سنعمل على تعزيز قدرتنا التنافسية لنحافظ على ما تبقى”.
من بين التكتيكات التي يعتمدها في التعامل مع الموظفين، هي النقاش الصريح، ويقول: “على المسؤول الناجح ان يخوض نقاشاً صريحاً مع الموظفين. من بين 10 مرات، سيخبرك الموظف 9 مرات أشياء قد تعرفها، لكن في المرة العاشرة سيطلعك على أمر في غاية الاهمية. قد يلزمك اكتشافه نحو 3 سنوات، وحينها بالتأكيد يكون الآوان قد فات”.
لهذا السبب، كان يمضي معظم وقته برفقة الموظفين وفي المصانع والقليل منه في مكتبه، ويقول: “كانوا يُدهشون لأنني كنت اناقش واياهم مدى انتاجيه المصنع وجدواه. ففي النهاية، لا استطيع وحدي ان أقرر إذا كان يجب ايقاف انتاج قطع معينة او ايقاف آلة معينة عن العمل ضمن المصنع. كنت هناك في المصنع لكي أبثّ اشارات، لكي أقول لهم إنه علينا ان نراقب آلية العمل ونكتشف معاً مكامن الخلل”.
في موازاة الاجراءات الداخلية، وضع كنودزتورب ثقله في الاعلانات التجارية، ما جعل الطلب يتزايد من كل أنحاء العالم، الى درجة ان المعامل في الدانمارك التي تنتج اكثر من 31 مليار قطعة في السنة، باتت عاجزة عن تلبية الطلب. ففي بداية العام الحالي، تراجعت نسبة المبيعات ليس بسبب تراجع الطلب، بل بسبب انحسار نسبة العرض. لذلك تسعى الشركة التي تملك ايضا مصنعا في المكسيك الى فتح مصنع جديد في الصين.
كما قررت الشركة حالياً خفض الاعلانات لتركز استثماراتها في تعزيز قدرتها على الانتاج. وفي هذا الاطار، يوضح المدير المالي لدى “ليغو” جون غودوين: “يفرض الطلب المتزايد ضغوطاً هائلة على معاملنا في العالم. وقد قمنا بالكثير من التعديلات. ونسعى الى افتتاح مصنع في الصين في عام 2017 في موازاة توسيع مصنعنا في المكسيك. كما نعمل على التوسع في هنغاريا، وتوظيف 3500 موظف اضافي”.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-hyb