بالرغم من التباطؤ الاقتصادي في الصين، والذي حظي بقدر وافر من الجدل، فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي يظل أعلى من 7%، الأمر الذي يعني ضمناً أنه لا يوجد مبرر للانزعاج، في الوقت الحالي على الأقل.
لكن السؤال المطروح هو ما إذا كانت الجهود التي تبذلها الحكومة لتنفيذ الإصلاحات البنيوية والتحول في نموذج النمو الاقتصادي ناجحة بالفعل، أو ما إذا كانت اختلالات التوازن المحلية ستستمر في تهديد الأداء الاقتصادي على المدى البعيد.
“إن تقييم الاستقرار الاقتصادي في الصين يتطلب وضع الصراعات والتوترات التي تؤثر على البلاد في الحسبان، ولا يساعد أي من هذه الصراعات والتوترات في دعم قضية النمو”
ولأن الصين لا تزال محرك النمو الأكثر أهمية في الاقتصاد العالمي، فإن الإجابة تهم الجميع.
إن تقييم الاستقرار الاقتصادي في الصين يتطلب وضع الصراعات والتوترات التي تؤثر على البلاد في الحسبان، ولا يساعد أي من هذه الصراعات والتوترات في دعم قضية النمو.
فبادئ ذي بدء، تعمل نزاعات الصين الإقليمية مع العديد من جيرانها، بما في ذلك اليابان وفيتنام والفلبين، على تقويض السلام الإقليمي، ناهيك عن التكامل الاقتصادي.
وعلاوة على هذا، كانت علاقة الصين مع الولايات المتحدة في تدهور مستمر، نظراً للصراع حول السياسة الخارجية الأميركية والنزاعات حول الأمن السيبراني (أمن الفضاء الإلكتروني). والواقع أن الصين عملت بالفعل على تقييد قدرة بعض شركات التكنولوجيا العاملة في الولايات المتحدة على الوصول إلى سوقها، وربما نشهد المزيد من هذه الإجراءات قريبا.
ومن ناحية أخرى، تعمل حملة الرئيس شي جين بينغ لمكافحة الفساد على زعزعة أركان النظام السياسي الداخلي، وهي تشكل جهداً ضرورياً لتعزيز مساءلة الحكومة وشرعيتها في سعيها إلى تنفيذ إصلاحات شاملة عميقة.
لكن في وقت يتسم بتصاعد التوترات الدولية، هناك خطر يتمثل في تحول حملة شي جين بينغ إلى هجوم أوسع نطاقاً على المعارضة السياسية التي يمكن عزوها إلى تدخلات خارجية “فاسدة”.
ومنذ أطلقت الصين عملية “الإصلاح والانفتاح” قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، استفادت من استعدادها للنظر في -إن لم يكن تبني- الأفكار الأجنبية.
وفي العديد من المجالات -السياسة الاقتصادية في اقتصاد السوق، وإدارة الأعمال، والتكنولوجيا، والطاقة، والبيئة، والرعاية الصحية، على سبيل المثال لا الحصر- ساعد التعلم الانتقائي في التعجيل بعملية التنمية والتطوير في الصين (وأفاد البلدان التي تعلمت من التجربة الصينية).
إن الخلط بين التأثيرات الخارجية وحملة مكافحة الفساد المشروعة من شأنه أن يقوض هذه الديناميكية الإيجابية، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب وخيمة محتملة على مساعي الصين الرامية إلى تحويل نموذج النمو لديها والوصول إلى مصاف البلدان المرتفعة الدخل.
التقدم نحو التحول الاقتصادي
والنبأ السار هنا هو أن الفكرة -بالرغم من أنها غير مكتملة- تُظهِر تقدماً في التحول الاقتصادي في الصين.
“إن الصين ليس لديها خيار سوى تغيير نموذج النمو، فقد أصبحت حصتها في الأسواق العالمية الآن كبيرة إلى الحد الذي قد يجعل اقتصادها مقيد الطلب للمرة الأولى في أربعة عقود من الزمان”
ويعمل النمو الضعيف في أسواق صادرات الصين الرئيسية (وخاصة في أوروبا وأميركا الشمالية واليابان) جنباً إلى جنب مع ارتفاع الأجور والدخول المحلية، على دفع الجزء القابل للتداول من الاقتصاد نحو مكونات ذات قيمة أعلى في سلسلة العرض العالمية.
ومن ناحية أخرى، كان التضخم والأجور المتزايدة وارتفاع القيمة الاسمية للرنمينبي من الأسباب التي دفعت سعر الصرف الفعّال الحقيقي إلى الارتفاع، وإن كان هذا الاتجاه قد اعتدل إلى حد ما بفضل قيمة اليورو المرتفعة.
والواقع أن الكيفية التي تتعامل بها الشركات مع هذا الطور الانتقالي -الذي يساهم بالفعل في تباطؤ النمو في الصين- سوف تحدد مدى التقدم على مسار التحول.
إن الصين ليس لديها خيار سوى تغيير نموذج النمو. فقد أصبحت حصتها في الأسواق العالمية الآن كبيرة إلى الحد الذي قد يجعل اقتصادها مقيد الطلب للمرة الأولى في أربعة عقود من الزمان. ويمر السبيل الوحيد لتجنب هذه النتيجة عبر اتباع برنامج متوازن يشمل استثمارات عالية العوائد، وخدمات حكومية عالية القيمة، ومستوى أعلى من الاستهلاك المنزلي.
ومن الممكن أن تلعب الاستثمارات العامة والخاصة -التي خدمت كمحرك رئيسي للنمو في الصين على مدى العقود الأربعة الماضية- دوراً بالغ الأهمية في توسيع الطلب المحلي، ولكن هذا لن يتحقق إلا إذا كانت العائدات عالية.
ورغم أن الاستثمارات المنخفضة العائد تعمل على توليد الطلب الكلي، فإنها لا تزيد الدخل أو الطاقات الإنتاجية في المستقبل، وهي بالتالي لا تعزز النمو المستدام.
ويتعين على زعماء الصين نظراً لهذا أن يستخدموا مزيجاً من إصلاحات القطاع المالي، وتحسين حوافز القطاع العام لزيادة القدرة على الوصول إلى رأس المال في القطاعات التي تتسم بمعدلات عوائد محتملة مرتفعة. والواقع أن هذه العملية تجري الآن مع الترخيص لبنوك خاصة جديدة وتطور نظام الظل المصرفي في الصين.
الخدمات الحكومية وزيادة الاستهلاك الأسري
ونظراً لمحدودية قدرة الطلب على الاستثمار على دفع النمو، فإن الأمر يتطلب أيضاً توظيف الخدمات الحكومية العالية القيمة وزيادة الاستهلاك الأسري. في الوقت الحالي، يشكل الاستهلاك الخاص نسبة صغيرة إلى حد غير عادي من الناتج المحلي الإجمالي في الصين. ولكن الأجور المتزايدة الارتفاع -والتي ترجع جزئياً إلى زيادة الحد الأدنى للأجور في بعض المناطق- تعمل على تعزيز دخول الأسر، وهناك بالفعل بعض الأدلة التي تشير إلى أن الاتجاه النزولي في حصة الاستهلاك في الناتج المحلي الإجمالي قد انقلب إلى العكس.
“يتعين على زعماء الصين أن يستخدموا مزيجاً من إصلاحات القطاع المالي وتحسين حوافز القطاع العام لزيادة القدرة على الوصول إلى رأس المال في القطاعات التي تتسم بمعدلات عوائد محتملة مرتفعة”
ولكن يبقى التساؤل حول ما إذا كان نمو حصة الاستهلاك مستداما، بمعنى ما إذا كان ناجماً عن نمو حصة الدخل أو ارتفاع مستويات الاستدانة. فإذا كان مدعوماً بالاستدانة المفرطة، ليتحول بذلك فعلياً استهلاك المستقبل إلى الحاضر، فإن الصين قد تواجه تباطؤاً كبيرا، أو ربما حتى أزمة كبرى.
لا شك أن مستويات الاستدانة ازدادت بمعدلات غير قابلة للاستمرار في السنوات الأخيرة. ولكن لأن نمو الديون بدأ من قاعدة منخفضة، فإنه لن يؤدي بالضرورة إلى أزمة، ما دامت إدارة المخاطر تتم على النحو اللائق.
والأمر الأكثر أهمية على الإطلاق هو أن أنشطة الظل المصرفي لابد أن تخضع للتنظيم على النحو الذي يفضي إلى تعزيز الشفافية وردع الإفراط في خوض المجازفة، في حين يسمح للقطاع بالاستمرار في تطوير القطاع المالي من خلال توفير خيارات الادخار للأسر والائتمان للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
أما عن القطاع المصرفي الرسمي، فإن تحرير أسعار الفائدة على الودائع، والمقرر أن يبدأ عام 2016، من شأنه أن يحد من إعانات دعم الاستثمار. وهذا بدوره لابد أن يساعد في إعادة التوازن إلى جانب الطلب في نمط النمو.
إن تحقيق التزامن التام بين هذه التغيرات البنيوية المعقدة أمر غير ممكن، ومن المرجح بالتالي أن تكون مصحوبة بتراجع في معدلات النمو.
وقد أعربت الحكومة عن استعدادها لتقبل النمو البطيء بعض الشيء في سعيها إلى بناء اقتصاد أكثر استقراراً واستدامة. ولكن سواء كان التباطؤ بداية اتجاه أو جزءاً مؤقتاً من تحول معقد، فإنه لن يكون واضحاً منذ البداية.
وضمان كونه جزءاً مؤقتاً من تحول معقد يتطلب الصبر والانضباط -في السياسة الداخلية والخارجية على حد سواء- بما يليق بالتحول الكبير الجاري الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد بكلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، وكبير زملاء معهد هووفر. وأحدث مؤلفاته كتاب “التقارب التالي.. مستقبل النمو الاقتصادي في عالم متعدد السرعات”.