لم يفشل عباس في المفاوضات لأن هناك انقساما، بل لأن خياره في الأصل عبثي، وهو يجرّب المجرّب، ويدير ظهره لمجرّب آخر كان ناجحا في تجارب الشعوب، أعني خيار المقاومة التي تجعل الاحتلال مكلفا وتدفعه للتنازل.
أيا يكن الأمر، فقد تابعنا طقوس إعلان إنهاء الانقسام وتوقيع المصالحة، ونأمل رغم خلافنا مع كل ما جرى، أعني لجهة الحيثيات، أن يتواصل الأمر لما فيه مصلحة القضية، لكن التمنيات شيء والواقع شيء آخر.
لا شك أن أزمة طرفي المصالحة هي التي دفعتهما للتوقيع؛ إذ تعيش حماس مأزق الحصار المشدد الذي تفرضه مصر بنظامها الجديد على القطاع، ومعها أزمة الاستهداف من قبل السلطة والاحتلال في الضفة الغربية، بينما تعيش فتح والسلطة أزمة فشل المفاوضات، فضلا عن مساعي دحلان لتأكيد سيطرته على فرعها في القطاع على نحو يهمّش قيادتها في الضفة.
المشكلة أن هذه الظروف ليست ثابتة، وتبعا لها المواقف التي قد تتغير بفعل الضغوط، بخاصة مواقف قيادة السلطة. لكن الأهم أن التفاصيل في ملف المصالحة كثيرة لسبب بسيط يتعلق بالخيارات السياسية والنضالية لكل طرف. ففي حين ترى حماس أن المقاومة هي الخيار الإستراتيجي، وإن لم يكن بوسعها أن تفعِّلها بسبب عجز القطاع عن إطلاق مواجهة مع الاحتلال لوحده في ظل خلل كامل لميزان القوى؛ هو المحاصر برا وبحرا وجوا (يمكنه رد العدوان ببسالة كما فعل من قبل)، فإن الطرف الآخر لا زال يعول على المفاوضات، وإذا تركها لبعض الوقت بسبب المواقف الصهيونية، فإن بديله ليس المقاومة، وإنما التوجه إلى المؤسسات الدولية.
كان لافتا بالطبع أن تأتي المصالحة بعدتلويح عباس بحل السلطة؛ المصممة أصلا لخدمة الاحتلال، بينما جوهر المصالحة هو تشكيل حكومة لها، وانتخابات رئاسية وتشريعية أيضا، بما يعني تكريسا لوضعها كدولة تحت الاحتلال الذي يتحكم بكل مفرداتها، بل وصل بها الحال أن عقدت معه اتفاقات طويلة المدى مثل اتفاقي المياه والغاز؟!
هل ستغير الحكومة الجديدة من برنامج السلطة، وأين برنامج حماس من تلك الحكومة (المستقلون في الضفة هم فتح عمليا)، وإذا قلنا إنها إدارية وليست سياسية، فما الذي يضمن لنا أن لا تذهب قيادة السلطة والمنظمة التي ستنتخب لاحقا في اتجاه آخر؟!
إن برنامج عباس الكامن هو انتخابات للسلطة والمنظمة في الداخل، وبالطبع اعتقادا منه بالقدرة على الحصول على أغلبية، ولو بسيطة تعيد إليه ما فقده عام 2006، بينما يترجَّم ذلك في المجلس الوطني، وبالطبع حين يجري التذرع بعدم القدرة على إجراء انتخابات في الشتات الذي تتفوق فيه حماس بكل تأكيد. وبعد ذلك سيمضي في ذات المسار الذي لا يؤمن بغيره.
أما القول إن ذلك هو خيار الشعب، فهذا غير صحيح أبدا، أولا وقبل كل شيء، لأن 4 ملايين في الضفة والقطاع هم 40 في المئة من الشعب فقط، وثانيا لأن الانتخابات ستتم والمسدس في رأس الشعب الفلسطيني في الداخل؛ (إذا انتخبت حماس فانتظر الحصار). هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن حماس بعد طول استهداف (منذ 2007) في الضفة الغربية لن تكون قادرة في غضون ستة شهور على لملمة جراحها وخوض انتخابات جديدة.
بعد ذلك تنهض الأسئلة الأكثر إثارة في القضية، وهي التي تتعلق بالعقيدة التي تتبناها أجهزة الأمن في الضفة. هل سيجرؤ محمود عباس على وقف التنسيق الأمني مع العدو؟ ألن يقول بعد قليل من الوقت، إن السلطة تعني شرعية واحدة وسلاحا واحدا، وإن على حماس والفصائل أن تضع سلاحها بيد السلطة كما كان يقول قبل الحسم العسكري حزيران 2007؟ هل ستقبل حماس والجهاد بالتخلي عما راكمته من سلاح؛ مع قبول منطق تجريم الفعل المقاوم؟!
هل إن مصالحة من هذا النوع تخدم فعلا قضية الشعب الفلسطيني، سواءً مضت في الاتجاه المتوقع بحسب ما تفرضه موازين القوى على الأرض من حيث تحكّم الاحتلال بوضع السلطة في الضفة، أم انفجرت من جديد بسبب التفاصيل التي أشرنا إليها؟ الجواب هو: لا؛ ما لم يجر تعديل بنودها ومسارها، لأن الفشل سيؤدي إلى إشاعة الإحباط من جديد. أما النجاح بالصيغة المتوقعة، فهو كارثي أيضا، لأنه يكرس التفاوض كخيار، والتنسيق الأمني كعقيدة، والسلطة/الدولة في ظل الاحتلال وتحت إبطه، وفي خدمته.
هنا يٌطرح سؤال: ما هو البديل؟
البديل الذي نراه، وقلناه مرارا من قبل هو أن تجرى انتخابات في الداخل والخارج (تهميش الشتات الفلسطيني جريمة) لانتخاب قيادة فلسطينية تمثل كل الشعب الفلسطيني (إعادة تشكيل منظمة التحرير)، وتكون تلك القيادة مفوضة بتعيين إدارة للسلطة في الضفة والقطاع تنحصر مهمتها في إدارة حياة الناس، فيما تحدد القيادة الفلسطينية مسار الشعب الفلسطيني النضالي، والذي لن يكون غير المقاومة، لأنه من دون أن يغدو الاحتلال مكلفا، فلن يقدم الصهاينة شيئا للشعب الفلسطيني، فضلا عن أن يكون ذلك الشيء هو دولة كاملة السيادة على كامل الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس مع حق العودة. وإذا رأت قيادة الشعب الفلسطيني أن حلَّ السلطة وتحميل الاحتلال مسؤوليتها وتحسين شروط المقاومة هو الأفضل، فسيكون ذلك بالتوافق أيضا، وقد ترى تقرر النضال السلمي أو المسلح، بحسب التقدير.