تسلّم نوري المالكي وحزب الدعوة الحكم في العراق قبل ثماني سنوات، وكانت عائدات النفط خلال هذه الفترة 41 بليون دولار عام 2007 لترتفع الى نحو 86 بليوناً عام 2013. كما تراوح معدل انتاج النفط بين مليوني برميل يومياً في بداية فترة الحكم ونحو 3 ملايين أخيراً. واتخذت حكومته قراراً مهماً هو دعوة شركات النفط العالمية للاستثمار في العراق لزيادة انتاجية حقوله. وعلى رغم انها كانت تحتاج الى تقنية وإدارة حديثتين، الا ان ذلك لم يكن السبب الحقيقي وراء القرار. فالسبب الرئيس الذي سيترك آثاره في صناعة النفط العراقية للعقود المقبلة هو حاجة الحكومة سريعاً الى أموال اضافية بسبب الأزمة المالية العالمية وتدهور أسعار النفط في أواخر العقد الماضي، بحيث لم تستطع الاستمرار في تحمل مسؤولياتها.
ستعرف مرحلة حكم المالكي من تاريخ العراق، بفترة «بعد خراب الموصل». فقد أنهى حكمه بالفشل في صد غزو «النازيين الجدد» لمدينة الموصل وولاية نينوى حيث القتل الجماعي للمسيحيين والأيزيديين، وتهجير الميليشيات السكان الآمنين، ومصادرة مساكنهم بعد التأشير عليها بهوية دينهم، بالضبط كما فعل النازيون باليهود الأوروبيين خلال الحرب العالمية الثانية. انتهى حكم المالكي والعراقيون يتذكرون ما درسوه في كتب التاريخ عن غزو هولاكو المغولي لبغداد وحرقه المكتبات وسفكه الدماء. وسبّت قواته النساء وباعتهن في أسوق الجواري، كما فعل أتباع «داعش» في محافظة الموصل. سيذكر التاريخ عدم دفاع الجيش العراقي عن سكان الموصل، وشيوع الفساد بحيث اصبحت سرقة البلايين من الدولارات وضياعها أمراً طبيعياً، من دون إصدار أحكام قضائية في حق المتهمين.
هدد المالكي الشعب العراقي بـ «فتح أبواب جهنم» في حال إزاحته عن سدة الحكم. وكأن هذا المنصب محجوز له أبدياً، ولربما لورثته من بعده. وبما ان النفط هو عماد الاقتصاد العراقي، فأول ما يتبادر الى الذهن هو غياب قانون للنفط والغاز في العراق منذ عام 2003. وهذا أمر طبيعي في ظل الخلافات السياسية وغياب عقد اجتماعي جديد. فهل العراق دولة فيديرالية كما ينص عليه الدستور ام دولة مركزية؟ وهل هناك إرادة سياسية للعيش المشترك، بكل ما يعنيه هذا التعبير من حلول وسط وتفاهمات تأخذ في الاعتبار وجهات نظر الأطراف الأخرى في الدولة، ام هناك نية لدى بعضهم، بخاصة الشعب الكردي، في الاستقلال عن العراق؟
لم يحسم الشعب العراقي في أعماقه الأجوبة عن هذه الاسئلة، على رغم الاستفتاء على الدستور الفيديرالي لعام 2005. وعانت الصناعة النفطية العراقية كثيراً من غياب عقد اجتماعي بين القيادات السياسية حول هذا اللغط. فعلى رغم عائدات النفط البالغة عشرات البلايين من الدولارات سنوياً، فهي لن تكون كافية لبناء دولة عصرية مستقرة في غياب تفاهم بين المسؤولين حول هذه الدولة: مركزية ام فيديرالية؟ وفي غياب عقد واضح لا يستطيع المسؤولون النفطيون ادارة قطاعهم بعقلانية من دون هذا التفاهم بين السياسيين وأحزابهم.
حقيقة الأمر ان الخلافات التي هيمنت على سياسة البلد طوال السنوات الماضية والتي أدت بالعراق الى الانضمام الى مجموعة الدول الفاشلة، هي نتيجة ضياع الوقت في جدال سياسي عقيم. هذا النقاش منع البرلمان منذ عام 2007 من تشريع قانون النفط والغاز الذي حاول أن يعالج توزيع الصلاحيات والمسؤوليات للقطاع بين وزارة النفط الاتحادية في بغداد والسلطات في المحافظات والأقاليم. وأدى الخلاف حول النفط الى إمكان تقسيم البلاد واستغلال ضعفها وغزوها من جانب شرذمة من الإرهابيين.
ان مشروع القانون واضح، إذ اكدت مسودته ان ملكية النفط والغاز تعود الى كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات. وتقترح تشكيل مجلس اتحادي للنفط والغاز يشمل مسؤولين من الحكومة الاتحادية والمحافظات والأقاليم، ويتخذ القرارات النفطية اللازمة على صعيد الدولة برمتها، مع التنسيق والتشاور بين وزارة النفط الاتحادية والمحافظات.
تكرر المسودة في كثير من بنودها تكليف السلطات الاتحادية بمسؤولية تخطيط الصناعة النفطية للبلد بأجمعه وتنفيذها، لكن بالتشاور والتنسيق مع الأطراف. ان مسؤولية كهذه تفرض وجود حكومة مسؤولة ومنفتحة تتشاور مع الأطراف وتحول اليهم الأموال المخصصة في أوقاتها من دون الاستئثار بها في بغداد. كما ان هذا يعني ان تحدد الأطراف بالضبط ما الذي تريده من العراق. فهل الهدف المنشود هو الاستفادة من الثروة الطبيعية للعراق اليوم ثم الانفصال غداً؟ اذا تكرر هذا التهديد، كما يحدث كلما احتدم الخلاف بين بغداد وأربيل، فمن الصعب تطوير الصناعة النفطية العراقية، ومنع انتشار التهديدات لمناطق أخرى. سيكون البديل عندئذ النزاعات المستمرة وربما اللجوء الى المحاكم الدولية.
مفروض ان يتعلم العراق من تجربتين، الأولى تجربة مجلس الإعمار في خمسينات القرن العشرين، عندما خصصت أموال الريع النفطي لمشاريع عمرانية وبنى تحتية في شكل مدروس، بدلاً من تحويل غالبية الريع الى معاشات الموظفين ورواتب التقاعد في الموازنة العامة وعدم توفير الكهرباء او المياه للمواطنين كما هو الوضع حالياً. والثانية، ان العراق بلد شبه مغلق جغرافياً ويحتاج الى سياسة خارجية تجنبه الحروب والنزاعات مع الدول المجاورة. اذ لا يستطيع البلد تحمل توقف صادراته النفطية عبر الدول الأخرى لفترة طويلة.
نفهم ان تحصل خلافات حول قانون النفط، نظراً الى اختلاف المصالح. لكن لا عذر في الاستمرار في دعوة شركات النفط العالمية وزيادة الانتاج من دونه. فهذا يعني ان العراق سيواجه في المستقبل المنظور مشاكل عدة، إما داخلية، كتقسيم البلاد، او قانونية، في خلافات مع الشركات النفطية. وغياب قانون النفط يماثل حل الجيش العراقي، مع فارق بين نوعية الاثنين، وهما عماد البلاد، كل من موقعه.
اذا استمرت الحكومات العراقية في مناقشة الخلافات ذاتها واتباع السياسات القائمة منذ عام 2003، فالحل لن يكون بتغييرها بل بتغيير النظام، اي ربما فتح «أبواب جهنم» الذي تخوف منه المالكي.