بعد فترة طويلة من الصعود، أصبحت الظروف التي تواجه الأسواق المالية أكثر صعوبة إلى حد ما خلال الربع الثالث . وأظهر الاقتصاد الأمريكي تحسناً متصاعداً، حيث بينت المؤشرات أن زخم النمو بقي قوياً إلى حد كبير في الربع الثالث بعد أن سجل الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني معدل نمو سنوي بلغ 6 .4% . في المقابل، اتسم الربع الثالث بالركود في أوروبا، مع علامات على تعثر النمو في عدد من الأسواق الناشئة، ولا سيما الصين . وكانت أسعار الفائدة التي بقيت منخفضة لفترة طويلة، والسيولة الكبيرة التي أسهمت بتوفيرها البنوك المركزية، قد جعلت الأسواق تعيش فترة استثنائية في امتدادها من التقلبات المنخفضة .
ارتفعت الأسهم خلال معظم تلك الفترة بوتيرة منتظمة من دون خروج عن نطاق التوقعات . ولكنّ ذلك الاتجاه بدأ يتغير كما يبدو مع اقتراب الربع من نهايته بسبب تزايد التكهنات بأنّ البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سيشدّد سياسته النقدية في وقت أقرب مما كان يتوقعه بعض المحللين . وعموماً، واصلت السندات الحكومية طويلة الأجل في الأسواق المتقدمة استفادتها من التزام البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة واليابان بأسعار الفائدة المنخفضة، مع غياب التضخم، واستمرار عمليات الشراء التي تراها ملاذاً آمناً . ومع ذلك، فإن استمرار التكهنات برفع سعر الفائدة الأساسي في الولايات المتحدة أدى إلى بعض الصعود في عائدات السندات قصيرة الأجل، وبالتالي زيادة تسطح منحنى العائد . كما أنّ التباين في التوقعات بشأن السياسة النقدية بين أوروبا والولايات المتحدة جعل عائدات السندات الأوروبية القياسية تنخفض عن عائدات السندات الأمريكية المماثلة . وأدى احتمال رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة أيضاً إلى تصاعد التقلبات في أسعار العملات خلال الربع الثالث، حيث سجل عدد من عملات الأسواق الناشئة خسائر كبيرة مقابل الدولار الأمريكي . بالإضافة إلى ذلك، ألقت التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا بظلالها على الأسواق، فاتسعت هوامش سندات الخزانة الأمريكية في مؤشر مقايضة العجز الائتماني للأسواق الناشئة (CDX .EM) خلال هذا الربع، وتراجع مؤشر جيه بي مورغان العالمي لسندات الأسواق الناشئة(EMBIGD) بنسبة -59 .0% (مقوماً بالدولار الأمريكي) .
لكنّ مؤشر سيتي غروب العام لسندات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حقق عائداً إيجابياً بلغ 96 .0%، ليسجل بذلك أداء أفضل من مؤشر EMBIGD وأفضل بكثير من مؤشر سيتي غروب العالمي للسندات الحكومية . ويعكس الأداء الإيجابي المطلق والنسبي لمؤشر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الانخفاض النسبي الذي تتصف به لمعامل المخاطر بيتا، فضلاً عن بعض نقاط القوة التي تميّز دول مجلس التعاون الخليجي وثبات العملات الخليجية المرتبطة بالدولار الأمريكي، حيث ضمن ارتباط تلك العملات بالدولار تجنيب تلك البلدان تقلبات أسعار الصرف التي عانتها الأسواق الناشئة الأخرى . ولعل من أبرز التطورات خلال الربع المنصرم إعلان هيئة السوق المالية السعودية أنها ستسمح بالملكية الأجنبية المباشرة للأسهم المدرجة في سوق “تداول” اعتباراً من العام المقبل . ويمكن لهذه الخطوة أن تدعم أسواق المال بشكل عام، سواء في المملكة العربية السعودية أو في عموم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا . وكانت المنطقة قد استجابت بصورة إيجابية للكثير من إصدارات السندات، في حين حققت بعض الشركات البارزة في دبي تقدماً كبيراً في معالجة ديونها المعلقة . واستمرت مؤشرات النمو قوية في بعض أهم الأسواق في المنطقة . حيث أسهم عدد من المشاريع الكبيرة في قطاعات البنية التحتية والسياحة وتجارة التجزئة في صعود مؤشر مديري المشتريات (PMI) لدولة الإمارات إلى مستوى 4 .58 نقطة في شهر أغسطس/آب، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق .
وكانت قراءة المؤشر ذاته في المملكة العربية السعودية أقوى، حيث ارتفع إلى مستوى 61 نقطة في أغسطس (من 5 .60 في الشهر السابق) على الرغم من انخفاض المعدل السنوي لنمو الناتج المحلي الإجمالي في المملكة من 1 .5% في الربع الأول إلى 8 .3% في الربع الثاني، والذي يرجع أساساً إلى تراجع أسعار النفط . أما في مصر، فقد حدثت تطورات إيجابية ومثيرة للاهتمام خلال هذا الربع، حيث رحّب المستثمرون بتأكيد إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرر قبل نهاية هذا العام، ربما في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني . وبدأت سلسلة من المبادرات المهمة تدخل حيز التنفيذ، بما في ذلك تخفيض الدعم الحكومي لأسعار الوقود . ونجحت الحكومة في جمع 5 .8 مليار دولار أمريكي في السوق المصرية لتغطية جزء من التمويل المطلوب لمشروع توسيع قناة السويس، وهو ما اعتبره المتابعون مؤشراً على انتعاش الثقة لدى المستثمرين المحليين . وفي شهر سبتمبر/أيلول، اتخذت شركة النفط الحكومية خطوات مهمة نحو تسديد جزء من الديون المستحقة عليها للشركات الأجنبية . تغيّر التصنيفات في شهر يوليو/تموز، رفعت وكالة فيتش التصنيف طويل الأجل للمنطقة الحرة بجبل علي كجهة مُصدرة (IDR) من +B إلى -BB مع نظرة مستقبلية مستقرة . وأرجعت الوكالة ذلك إلى تحسن السيولة والأداء التشغيلي الأفضل من المتوقع لهذه المؤسسة . وفي شهر يوليو أيضاً، منحت الوكالة تصنيفاً نهائياً بمستوى (-B) للسندات الصادرة عن شركة الكويت للطاقة والتي تبلغ أجلها عام 2019 . من جانبها، أكدت وكالة ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني A/A-1 لبنك أبوظبي التجاري، لكنها رفعت النظرة المستقبلية المرتبطة بالتصنيف من مستقرة إلى إيجابية . وفي أغسطس، رفعت وكالة موديز التصنيف طويل الأجل لثلاث شركات في أبوظبي كجهات مُصدرة إلى التصنيف Aa2، وهي شركة الاستثمارات البترولية الدولية (وكان تصنيفها السابق (Aa3)، وشركة مبادلة للتنمية (وكان تصنيفها السابق (Aa3، وشركة التطوير والاستثمار السياحي (وكان تصنيفها السابق (A1 وبررت موديز هذه الترقيات بالدعم المالي المستمر والاستثنائي لهذه الشركات الحكومية الثلاث من قبل حكومة أبوظبي . وفي المغرب، أسندت وكالة فيتش لأول مرة في شهر أغسطس التصنيف +BB مع نظرة مستقبلية مستقرة للبنك المغربي للتجارة الخارجية BMCE)) .
وفي سبتمبر/أيلول، عدلت وكالة موديز عدداً من تصنيفات مجموعة شركات شيلف دريلينغ ميدكو، ومقرها دبي . حيث رفعت الوكالة التصنيف الائتماني لعائلة الشركات (CFR) الخاص بالمجموعة من B1 إلى Ba3، كما رفعت تصنيف القروض مضمونة الأجل للمجموعة من B2 إلى B1، في الوقت ذاته، رفعت وكالة موديز تصنيف السندات المضمونة للشركة القابضة من B1 إلى Ba3، مع تعديل النظرة المستقبلية على تلك التصنيفات من مستقرة إلى إيجابية . وعلى النحو ذاته، أسندت وكالة موديز تصنيف عائلة الشركات بدرجة Ba3 لشركة دار الأركان للتطوير العقاري مع نظرة مستقبلية مستقرة . وشهد شهر سبتمبر/أيلول أيضاً ترقية وكالة موديز للنظرة المستقبلية طويلة الأجل على التصنيف Baa للديون السيادية المغربية من سلبية إلى مستقرة، وأرجعت ذلك إلى التقدم المحرز في خفض الدعم الحكومي وازدهار الصادرات الصناعية .
الإصدارات اتصف شهرا يوليو/تموز وأغسطس/آب بالهدوء من حيث الإصدارات الجديدة في الأسواق المالية في المنطقة . وكان الإصدار الجديد الوحيد في شهر يوليو هو طرح شركة الكويت للطاقة سندات بقيمة 250 مليون دولار أمريكي لأجل خمس سنوات بعائد 5 .9%، وهي نسبة أعلى قليلاً من التوقعات الأولية . ثم تحسن النشاط قليلاً في شهر سبتمبر، حيث طرحت بعض البنوك الخليجية سندات لأجل خمس سنوات، وكان من أبرزها إصدار بقيمة 500 مليون دولار أمريكي من البنك الوطني العماني، تم بيعه بسعر 135 نقطة أساس فوق متوسط أسعار مقايضة الفائدة، وإصدار بقيمة 400 مليون دولار أمريكي من بنك HSBC الشرق الأوسط، تم بيعه بسعر 85 نقطة أساس فوق متوسط أسعار مقايضة الفائدة، وطرح بقيمة 500 مليون دولار أمريكي من بنك أبوظبي التجاري لأجل خمس سنوات، حيث تم بيعه بسعر 5 .87 نقطة أساس فوق متوسط أسعار مقايضة الفائدة . كما نجح بنك برقان، ثاني أكبر بنك تجاري في الكويت من حيث الأصول، بتسعير سندات دائمة من الفئة الأولى بقيمة 500 مليون دولار أمريكي لأجل خمس سنوات . وفي الشهر ذاته، باع بنك الإمارات دبي الوطني سندات دائمة من الفئة الأولى بقيمة 500 مليون دولار أمريكي . أمّا خارج القطاع المصرفي، فقد شهد شهر سبتمبر/أيلول إصداراً بقيمة 25 .1 مليار دولار أمريكي لسندات حكومية أجلها 30 عاماً من مملكة البحرين بعائد قدره 6% . وفي سبتمبر/أيلول أيضاً، كان هناك إصداران يستحقان الذكر للصكوك الإسلامية: أولهما طرح إمارة الشارقة لصكوك قيمتها 750 مليون دولار أمريكي لأجل 10 سنوات بسعر 100 نقطة أساس فوق متوسط أسعار مقايضة الفائدة، حيث تمت تغطية الاكتتاب بزيادة عشرة أضعاف، كما باع بنك التنمية الإسلامية إصداراً بقيمة 5 .1 مليار دولار أمريكي لصكوك أجلها خمس سنوات بسعر 10 نقاط أساس فوق متوسط أسعار مقايضة الفائدة لمثل هذة الاستحقاق . وكان التسعير الأولي لهذه الصكوك غير المضمونة ذات الأولوية عند متوسط أسعار مقايضة الفائدة مع معدل ربح نصف سنوي قدره 11 .2% .
توقعات الأسواق مع نهاية الربع الثالث، بدأ المستثمرون يتخوفون من أداء الأسواق الناشئة في ظل صعود الدولار الأمريكي واحتمال رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، وخاصة في ظل تباطؤ النمو في عددٍ من الأسواق . ومع ذلك، لا تزال السيولة العالمية وفيرة، حيث يواصل البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان المركزي سياسة التيسير النقدي . وبسبب انخفاض العائدات، بقيت السندات اليابانية غير جذابة لفترة طويلة، لكنّ هبوط عائدات السندات السيادية الألمانية لأجل 10 سنوات إلى أقل من 1% يجب أن يساعد سندات الأسواق الناشئة ويجعلها أكثر جاذبية للعديد من المستثمرين . ومع أن تطورات أسعار الفائدة الأمريكية تبقى مسألة مهمة، لكننا نعتقد أن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة لا يقل أهمية عنها . وقد استفادت الاقتصادات الناشئة الأكثر تقدماً، وخصوصاً في آسيا، من تحسن الاقتصاد الأمريكي وكذلك من سياسات الاقتصاد الكلي الحكيمة . وبرأينا، فإن الأسواق الناشئة التي خططت مسبقاً لاحتمال رفع أسعار الفائدة الأمريكية ستكون أكثر قدرة على استيعاب أي أثر محتمل لتشديد السياسة النقدية للبنك الاحتياطي الفيدرالي (وقد لا تتأثر مطلقاً) . وفي هذا الصدد، فإن ارتفاع عائدات السندات في الأسواق الناشئة حتى أوائل أكتوبر/تشرين الأول لا يزال أقل بكثير، مما كان عليه قبل عام، عندما أدت المخاوف بشأن التقليص الوشيك لبرنامج شراء الأصول الشهري من قبل البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تقلبات واضحة .
وفي الوقت ذاته، فإن سندات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تبدو غير مرتبطة إلى حد ما بما تشهده الأسواق الناشئة، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى ربط العملات الخليجية بالدولار الأمريكي وقوة الوضع الائتماني لشريحة كبيرة من السوق . كما أنّ الإصلاحات التنظيمية الأخيرة التي تهدف إلى فتح الأسواق المالية المحلية أمام المستثمرين الأجانب ستلفت الاهتمام إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتساهم في المحافظة على الزخم الإيجابي الذي تشهده المنطقة في الآونة الأخيرة من حيث اجتذاب المزيد من السيولة . إضافة إلى ذلك، فإنّ قوة أرقام الناتج المحلي الإجمالي والمؤشرات المستقبلية المتفائلة، مثل بيانات مؤشر مديري المشتريات، توضح نقاط القوة التي لا تزال تميّز اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي . ويدعم ذلك استمرار النمو في القطاعات غير النفطية بفضل تطور الاقتصادات المحلية والإنفاق الكبير على البنية التحتية، إضافة إلى انخفاض الديون الحكومية ووفرة احتياطيات النقد الأجنبي . ومع أنّ الارتفاع المتوقع في أسعار الفائدة الأساسية في الولايات المتحدة يثير قلق الأسواق الناشئة، فإن مثل هذه الزيادة قد تساعد الموقف النسبي للمؤسسات المصدرة للسندات في دول مجلس التعاون الخليجي بالنظر إلى أوضاعها المالية الجيدة ومقاييسها الائتمانية القوية بشكل عام .