العجوز كانت أمي ، والشاب الساخر- كنت شابا ،صدقوني- كان أنا .الشموع كانت حقيقية تماما. أما الصورة فكانت نسخة عن لوحة (الموناليزا) المشهورة، وكانت معتمدة في ذلك الوقت من قبل احدى شركات الشوكولاته حيث توضع غلافا لعدة حبات من الشوكولاته ويتداولها الناس على سبيل الهدايا في الأفراح والمناسبات.
أمي اعتقدت ان اللوحة هي صورة للسيدة العذراء ، فأضاءت الشموع، وطفقت تصلي ، حتى جاءها من ينكد عليها…أنا.
الغريب أن اختي نجت من حادث سير مروع خلال رحلة العودة…ونجحت في الجامعة.
(2)
كنا ذات قرن أطفالا، كان للعالم طعم الشقاوة، ولم تكن الأرض قد أكملت تكورها في أذهاننا، ولا السماء قد ارست دعائمها في قلوبنا بعد.
كنا فقراء طبعا . كانت بقول الأرض وحبوبها هي طعامنا الدائم : عدس..عدس حب..عدس مجروش …عدس منفوش .. شوربة عدس …مجدرة عدس مع برغل..مجدرة عدس مع رز.
سئمنا العدس ومشتقاته ، وكنا من وقت لآخر نعلن العصيان المدني ،ونحاول ان نرفض تعاطي العدس. كانت امي هنا تبوح بعبارتها السرية.
– هل تعرفون ان المسيح كان يفطر عدسا كل يوم؟؟
بالطبع لم نكن نقتنع بكلام الماما الرؤوم، لكننا نعرف أن لا شيء سوى العدس لدينا، فنقتنع بالانسحاب المشرف من العصيان.
بعد عودة الأمور لطناجرها، كانت الوالدة تتسم بخبث ، لكني كنت الحظ شبح دمعة ترفض الاستسلام للأمر الواقع.
(3)
كان أبونا جورج يؤكد في كل حصة دين ، بِأن لكل واحد منا ملاكا حارسا ،يصحو وينام معه ويحرسه من الشيطان ، ومن الوقوع في التجارب ،ويحافظ عليه ويراقبه ويحميه من كل الأخطار.
في البداية ، كنا نخاف من هذا الملاك، فهو يراقب شيطناتنا الصغيرة وخطايانا البائسة و التي كنا نعتقدها انذاك من الفواحش، كأن نسرق الخوخ غير الناضج من بستان الجيران، او نتلفظ بعبارات نابية تعلمناها للتو من زملاء الدراسة الأكبر عمرا.
شخصيا لم اكن اتذمر كثيرا من الملاك الحارس، وكان يتملكني احساس بالرضى والزهو لأنني انا الطفل الفقير الجائع المهمل الوسخ كائن يمتلك ملاكا حارسا خاصا به، ويعمل (بدي قارد) لجنابه (جنابي).
كبرنا ونسينا قصة الملاك الحارس ، كبرت همومنا وخطايانا ، وكبرت الأخطار التي تواجهنا..كبر كل شر فينا، حتى صرنا نحتاج الى كتيبة كاملة من الحرس الملائكي لتحمينا من بعض شرور انفسنا ومن شرور وأخطار العالم المحيط.
(4)
تعارفنا – جهاز التلفزيون وأنا- على بعضنا من خلال الشابيك، ومارسنا البصبصة على بعض من خلال الشابيك الخشبية المهترئة ،المحمية بشباك حديدية صدئة.
فقراء كنا، لذلك كنا نشاهد التلفزيون من خلال شباك احدى العائلات الأوفر حظا وتمتلك جهازا.
التلفزيون كان في اذهاننا كائن عجيب ،يغني ويطلق النار ويلقى اخبار العالم من كل حدب وصوب على مسامعنا .
كبرنا ، وأتاحت لنا الظروف ان نقتني اجهزة تلفزيون، ثم دخلنا مرحلة الساتلايت والقنوات المشفرة والفيديو والإنترنت نت ….وخلافه!
كل شيء تغير وتبدل وتطور …الا نحن ….فما زلنا حتى الآن نشاهد ونبحلق في جميع احداث العالم، لكأننا نشاهد هذا العالم من خلال شباك الجيران الخشبي صاحب الإطار المعدني الصدئ.