تزداد المناسبات التي يذكر فيها الاقتصاد الإسلامي بقطاعاته كافةً على أنه إضافة هامة وكبيرة على الاقتصادات المحلية في كل بلد وعلى منظومة الاقتصاد الإسلامي بشكل عام. وتزداد المصادر أيضاً التي تتشارك هذا الرأي وتعلق أمالاً كبيرة على منظومة الاقتصاد الإسلامي الأخلاقية والثقافية بأنها قادرة على الإسهام بحد كبير في تخليص الاقتصاد العالمي من حالة الركود .
لذا علينا كروّاد ومختصين في الاقتصاد الإسلامي أن نتشارك هذه الآراء بحثاً وتحليلاً لتوضيح امكانيات هذه المنظومة الاقتصادية الصاعدة وكيفية توظيفها بشكل فعال لخدمة المرحلة القادمة، وبشكل خاص دور الاقتصاد الإسلامي وما يطرحه من منتجات ضمن قطاع الحلال في تنشيط الأسواق.
يتركز الحديث الاقتصادي اليوم على عدة محاور، المحور المحلي حيث التوجهات نحو صياغة اقتصاد جديد يعتمد بالأساس على القطاعات غير النفطية، وقادر على استحداث قطاعات جديدة، يتسم بالاستدامة والقابلية للتطور والنمو، ويغذيه الابتكار والاختراع والعقول والمواهب، وهو اقتصاد ما بعد النفط.
والمحور العالمي الذي تسوده حالة بحث محموم عن مخرج للأزمة التي لا زالت تلقي بظلالها على أسواق العالم. هذا البحث أدى إلى توافق على أن التحدي يكمن في تنشيط الأسواق العالمية وإعادتها للتداول مرةً أخرى حيث تسودها حتى اللحظة حالة من الركود عطلت الطاقات الإنتاجية في الكثير من المراكز الاقتصادية الكبرى، وهو ما بات يسمى باقتصاد ما بعد الأزمة.
على كلا المحورين، المحلي والدولي فإن القضية المركزية التي تجتمع عليها جهود الباحثين تتمثل بتنشيط الإنتاج. لكن هل فعلاً سيشكل الإنتاج إنطلاقة للاقتصاد، أم أن شكلاً معيناً من هذا الإنتاج هو ما تحتاجه الأسواق وهو الذي سيضخ الحياة في شرايين المنظومة الاقتصادية؟
لإيجاد إجابة دقيقة وعلمية على هذا السؤال، علينا اولاً تسليط الضوء على أهم عناصر العملية الاقتصادية ألا وهو التداول، تداول السلع والمنتجات والخدمات. هذا التداول الذي يتمثل بكل عملية بيع أو شراء مهما كانت صغيرة او كبيرة هو عصب الاقتصاد ودلالة عافيته .
كلما كانت عمليات التداول نشطة ازدادت القدرة الإنتاجية ونما رأس المال العامل في السوق. وكلما تقلصت هذه العمليات، ضعف قطاع الإنتاج وتراجع التمويل وتقلص حجم الاقتصاد بشكل عام.
هناك عدة عوامل قد تؤثر على عمليات التدوال، منها ضعف القدرة الشرائية لدى الناس والناجم عن التضخم وارتفاع الأسعار، أو بسبب تخمة الأسواق بمنتجات معينة تحتجز رأس المال فيصبح غير قابل للتسييل السريع أو الانتقال لدفع منتجات أخرى تحتاجها الأسواق، وقد اتفق علماء الاقتصاد على تسمية العامل الأخير بـ “التناغم ما بين الإنتاج والحاجة البشرية. “
لو عدنا الى المرحلة التي سبقت أزمة 2008 سنلاحظ أنها اتسمت بفائض الإنتاج وليس بندرته، كما نرى من خلال مراجعة تقارير التنمية العالمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي عام 2007 أن معدلات النمو في الاقتصاد العالمي بلغت حوالي 4 في المائة في عام 2006، وبلغ معدل النمو الذي سجلته البلدان النامية 7.3 في المائة. ويتحدث التقرير عن قفزة نوعية للاقتصاد العالمي ترافقت مع تراجع معدلات الفقر والبطالة وارتفاع نصيب الفرد من الناتج الإجمالي. ويشير التقرير إلى أن تدفقات الاستثمارات في أسهم رأس المال قد تجاوزت 400 مليار دولار أمريكي في عام 2006، حيث شكلت حوالي ثلاثة أرباع التدفقات الرأسمالية، مقابل الثلثين في عام 2004. وسُجلت زيادات قوية في الاستثمارات في محافظ الأسهم والاستثمار الأجنبي المباشر في الأسواق الناشئة والبلدان النامية الأخرى.
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه بقوة والحاح علمي، لماذا دخل الاقتصاد العالمي بالكامل مرحلة من الركود لم يستغرق تشكلها سوى أشهر قليلة؟ وكيف يمكن لهذا أن يحدث في مرحلة تعتبر طفرة تاريخية في الإنتاج والاستثمار.
الجواب الذي يتفق حوله غالبية المفكرين الاقتصاديين هو أن نقطة التحول تكمن في ثقافة الإنتاج وليست في كمه، أي بما ننتج وليس كم ننتج، فهذا الفائض في الإنتاج تركز في سلع معينة وبأسعار خيالية مثل العقارات وتداول أسهم الشركات في الأسواق المالية، الأمر الذي دفع الناس الى رفع معدلات تداول هذه السلع إلى جانب الصرف الكبير على السلع الكمالية الأخرى. هذه الحال أدت إلى اختلال توزيع المداخيل للأسر والأفراد بعد أن جمدوا مدخراتهم بهذه السلع فانهارت بانهيار الأسواق خلال الأزمة، وأدى هذا الانهيار إلى تراجع القدرة الشرائية في السلع الأساسية الأخرى، فتقلص الإنتاج مرةً واحدة مما دفع بالعديد من الشركات الضخمة حول العالم إلى التخلي عن عدد كبير من العمال والموظفين بهدف تقليص طاقتها الانتاجية.
لذا لا يمكن للإنتاج أن يشكل طوق نجاة للاقتصاد العالمي إلا إذا ارتبط بالتمويل والاستثمار المسؤول، الذي يضع أولويات الإنتاج بما يتفق مع أولويات الحاجات البشرية الأخرى. وعندما نتحدث عن الصناعات الحلال، فنحن نقصد تحقيق هذه النظرية بشكل أساسي، أي التوازن بين استقرار الاقتصاد واستقرار البيئة الاجتماعية.
إن إنتاج الصناعات الحلال في الاقتصاد الإسلامي عملية تتكامل فيها الشروط والتشريعات والقيم. إنها عملية تتجاوز المفهوم التقليدي للصناعات الحلال لتطال كافة قطاعات الإنتاج للسلع والخدمات التي تشكل في مجموعها حركة سوق التداول بين البائعين والمشترين.
وبتفصيل أكثر:
1. إن الحاجات البشرية الأساسية لا تنضب ولا تتراجع، بل تزداد بازدياد عدد السكان ومتطلبات عيشهم. لذا فإن ترتيب قائمة أولويات الانتاج حسب أولويات الحاجات البشرية يشكل شرطاً لاستمرار حالة نشطة من التداول.
2. الإنتاج الحلال يفترض توزيع الاستثمارات على كافة قطاعات الإنتاج وفق خطة مدروسة تراعي التكامل في معدلات النمو للمنظومة الاقتصادية، وليس تركيز الاستثمارات في قطاعات معينة مجاراة لتقلبات السوق.
3. كما يفترض أن يكون التمويل قائماً على الشراكة وأن تتحمل الجهة الممولة جانباً من المخاطرة في سياق سعيها للأرباح. وهكذا نضمن أن يتوجه التمويل نحو المشاريع الحقيقية المستدامة وأن ينحسر في المجالات شبه الوهمية التي قد تساهم في هشاشة القطاع المالي.
4. الإنتاج الحلال يراعي في عملياته مصلحة القوى المنتجة أي العمال والموظفين وكافة العناصر البشرية المشاركة، فهذه القوى هي نفسها قوى الاستهلاك ولا يمكن الحديث عن استمرار قدرتها على الاستهلاك إلا باستمرار تنامي قدراتها الشرائية وفق معدلات تحمي من التضخم. فالإنتاج في الاقتصاد الإسلامي، فعل اجتماعي بمعنى أن الناس تنتج شروط بقائها والحفاظ على نسيجها الاجتماعي.
5. تشترط عملية الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي معايير صارمة لجودة السلع، بحيث تكون أكثر صحية واستدامة، وهذا يلتقي مع رغبة مليارات من البشر الذين بدأوا بالتساؤل حول مدى استجابة ما يأكلون ويشربون لمتطلبات حياة صحية.
6. إن قرار إنشاء مركز الإمارات العالمي للاعتماد يشكل أحد الروافد الأساسية لقطاع الحلال من خلال ضمان الحصول على الاعترافات الدولية من المنظمات المعنيّة على المستويين الإقليمي والعالمي في مجالات الاعتماد المختلفة، وتسهيل عمليات التبادل التجاري وتعزيز دور الدولة والإمارة في مجالات الصناعة والتجارة، وكذلك فإن العلامة الوطنية للحلال التي أصدرتها هيئة الإمارات للمواصفات والمقاييس، تساهم إلى حد كبير في تعزيز تنافسية المؤسسات والشركات العاملة في قطاع الأغذية الحلال عبر اعتماد أفضل معايير الجودة التي تشمل كافة مراحل الإنتاج والتسويق. ويمكن لهذه الخطوة المتقدمة للإمارات أن تساهم في عولمة منظومة معايير متفق عليها دولياً، من خلال توحيد وتنسيق هذه الجهود. ولا شك في أن تأسيس “المنتدى الدولي لهيئات اعتماد الحلال” الذي سيتخذ من دبي مقراً له هو الأول من نوعه على مستوى العالم الذي يترجم الجهود المبذولة في الإمارات لتطوير منظومة عالمية تنظم قطاع هيئات الاعتماد الحلال بمشاركة العديد من هيئات الاعتماد الإسلامية والعالمية من أجل ضمان تطبيق أفضل الممارسات في مجال اعتماد الحلال وتعزيز المصداقية في صناعة الحلال.
في النهاية، إن عملية الإنتاج الحلال، هي عملية تتكامل فيها كافة قطاعات المنظومة الاقتصادية الإسلامية، فلا يمكن لقطاع ان ينمو بدون أن يؤثر ايجابياً على الآخر. إنها عملية يشكل العنصر البشري أداتها وغايتها ومحورها الأساسي ليس كمصدر للربح فقط، بل كمصدر لاستمرار وثبات عمليات التداول التي تنعش الاقتصاد بحق.