كان مشروع توشكى- وبلا منازع- أبرز المشروعات التنموية القومية خلال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. ونجحت الآلة الإعلامية خلال سنوات المشروع الأولى في تسعينيات القرن الماضي في الترويج والحشد الشعبي له من خلال التركيز على ما استهدفه المشروع من زيادة الحيز العمراني إلى أكثر من 20% والخروج من الوادي الضيق ومواجهة الأزمة السكانية، وزيادة الإنتاج الزراعي وتقليل الفجوة الغذائية عن طريق استصلاح 540 ألف فدان حول منخفضات توشكى، إلى جانب توفير 2.8 مليون فرصة عمل من خلال خلق فرص ومشروعات استثمارية جديدة.
وكعادتهم، تفاعل المصريون مع توشكى بحماسٍ شديد وثقةٍ زائدةٍ وأملٍ في مستقبلٍ أفضل وغدٍ أرحب. ومع تعاقب السنوات، خبى الاهتمام السياسى بالمشروع وتباطأت معدلات الإنجاز وبدأت توشكى تفقد بريقها شيئاً فشيئاً؛ مما أثار الكثير من علامات الاستفهام بين المتخصصين حول قدرة المشروع على تحقيق مستهدفاته وجدواه الاقتصادية، بل وامتدت الأسئلة لتشمل كفاءة الدولة في إدارة مواردها وإهدارها المال العام دون عائد. وأفاق المصريون على واقعٍ مؤلم تحاصرهم فيه العديد التحديات فلم تتسع الرقعة المعمورة كما كان مخططاً، بل اتسعت الفجوة الغذائية وتزايدت فاتورة واردات الغذاء، وارتفعت معدلات البطالة بين فئة الشباب على وجه الخصوص. ولعل من المفارقات المثيرة للتأمل أن طرحت إحدى شركات التبغ وقتئذ منتجاً جديداً تحت اسم “سجائر توشكى”، فاشتركت توشكى المشروع وتوشكى السجائر في “حرق” المال العام، وكذلك في ظهورهما المفاجئ واختفائهما في ظروف شديدة الغموض. وتخبرنا البيانات المتاحة عن المشروع -وهي شديدة التفاوت- أن الحكومة قد أنفقت -بل إن شئت قل أهدرت- قرابة 7 مليارات جنيه على المشروع، وحتى العام المالي الأخير من عهد مبارك، كان جملة ما تم استصلاحه من أراضي توشكى حوالي 23 ألف فدان أو ما يعادل تقريباً نحو 4% من المساحة الإجمالية المستهدفة.
وبإعلان البدء في المرحلة الأولى من مشروع زراعة المليون ونصف المليون فدان في واحة الفرافرة في مطلع هذا العام، راودت الكثير من المعنيين بالتنمية الزراعية في مصر العديد من الهواجس واختلطت مشاعر الأمل والحماس بكثير من المخاوف التي لا تزال عالقة في الأذهان من تجربة توشكى المأساوية. وباستعراض سريع لما صاحب مشروع توشكى من معوقات ومشكلات ساهمت في تعثر التجربة وعجز المشروع عن تحقيق أهدافه وفق جداولها الزمنية المعلنة، يمكن استخلاص الكثير من الدروس المهمة -التي يصعب حصرها في مقال واحد- والتي قد تفيد في إنجاح مشروع الفرافرة، وفي الأسطر القليلة القادمة سأحاول إلقاء الضوء على أربعةٍ منها أظنها جديرةٌ بالاهتمام والأخذ في الاعتبار.
أولاً: إن تخطيط وتحليل جدوى المشروعات الزراعية القومية ذوات الاستثمارات الضخمة يستوجب دراسات مستفيضة تتضافر فيها جهود الخبراء لتشكل فريق عمل متكامل يجمع بين المتخصصين في النواحي الفنية كالمتعلقة بالمياه والتربة والمناخ والتراكيب المحصولية، وخبراء الاقتصاد والتنمية الزراعية، وذلك للتقييم العلمي المحايد لجدوى الاستثمار فنياً واقتصادياً ووفق صيغة تراعي التوازن بين العائد الاقتصادي والقيمة المجتمعية للاستثمار، وبشكل مستقل تماماً عن أية توجهات سياسية ومساعي لكسب التأييد الشعبي. فلقد صاحب مشروع توشكى منذ بدايته جدل شديد بين المتخصصين حول مدى ملاءمة ظروف التربة والمناخ وتوافر الموارد المائية للإنتاج الزراعي وكذلك حول ارتفاع تكلفة الإنتاج مما يجعله غير مجدٍ من الناحية الاقتصادية. وهذه كلها مؤشرات -بصرف النظر عن صحتها من عدمه- تدل على أن المشروع لم يحظ بدراساتٍ كافية، ليس من ناحية العدد فالدكتور الجنزوري أكد أكثر من مرة أنه تم إجراء أكثر من 30 دراسة حول المشروع، وإنما من حيث جودتها العلمية ودقة مخرجاتها واستقلاليتها عن الأجندة السياسية للحزب الحاكم وقتها. ولذلك، فينبغي أيضاً أن تتاح كافة البيانات المتعلقة بالمشروعات بمنتهى الشفافية للرأي العام وأن تطرح مسوداتها للحوار المجتمعي حتى يتم الاستفادة الكاملة من كافة الرؤى التي قد تفيد في تغير مسار المشروع ليصبح أكثر إفادة للمجتمع.
ثانياً: إن شمولية الرؤية وتكاملية التخطيط للمشروعات القومية تستلزمان ألا تقتصر النظرة على ما يتعلق بالهدف المباشر من المشروع من حيث استصلاح أراضٍ وزيادة الإنتاج الزراعي؛ بل يجب أن تتسع دائرة التخطيط لتولي اهتماماً موازياً بالبنى الأساسية والمؤسسية للمشروعات، فالإعلان عن تخصيص الأراضي لابد أن يسبقه استكمال البنية التحتية اللازمة لبدء النشاط الإنتاجي، إلى جانب المرافق الخدمية الأخرى كالمساكن والمتاجر والمدارس والمستشفيات ووحدات الأمن وغيرها من أساسيات إقامة المجتمعات البشرية. ولعل هذا يفسر الكثير من أسباب عزوف الشباب عن العمل في توشكى أو في المدن الجديدة بشكلٍ عام في ظل نقص المرافق وضعف شبكة الخدمات الاجتماعية.
ثالثاً: إن المشروعات الكبيرة تحتاج إلى عقول كبيرة لقيادتها، فكفاءة الأداء ترتبط بكفاءة القيادة، ويستلزم إيجاد مثل تلك القيادات توافر برامج قادرة على تعبئتها وإعدادها وتحفيزها، علاوة على وضع معايير الخبرة والكفاءة كأساس لاختيارها بعيداً عن أسلوب أهل الثقة الذي أهدر كثيراً من موارد الدولة بلا عوائد. كذلك، فلابد من التأكيد على أنه لا مجال للحديث عن استثمارٍ زراعيٍ ناجحٍ في ظل بيروقراطية الأجهزة الحكومية وقوانينها البالية، وتداخل الاختصاصات بين الجهات المشرفة على المشروعات القومية، إلى جانب الفساد الإداري وغياب الشفافية وعدم وضوح آليات الرقابة؛ ففي الوقت الذي نجد فيه الأجهزة الحكومية تكاد تشل حركة بعض المشروعات التنموية، نجدها في غاية التساهل ليتحول دورها الرقابي إلى مجرد إجراء شكلي بالنسبة لمشروعاتٍ أخرى. فمن عجائب مشروع توشكى مثلاً أن الحكومة المصرية قد وافقت على عدم خضوع إحدى الشركات المستثمرة في المشروع لأحكام قانون الأراضى الصحراوية، بل وتضمن العقد مادة تعطي الشركة ذاتها الحرية الكاملة في تطوير تنفيذ المشروع وفقاً “لمطلق إرادتها”، والأدهى أن العقد لم يتضمن شروطاً جزائية في حال تأخر الشركة في تنفيذ أعمال الاستصلاح وهو ما حدث بالفعل.
رابعاً: ينبغي أن تراعي السياسات الزراعية الاستثمارية التوازن في أهدافها بين جذب المستثمرين من ناحية وترشيد إدارة الموارد من ناحية أخرى، وأن يدرك القائمون عليها أن هناك خيطاً رفيعاً بين “تشجيع” و “تدليل” المستثمرين. فما حدث في مشروع توشكى لا يرتضيه منطق اقتصادي ولا عرف استثماري فلا يعقل أن تتحمل الدولة تكاليف البنية الأساسية من شق ترعٍ ومجارٍ مائية ومحطات رفع وأعمال صناعية وخدمية كاملة بحيث بلغت متوسط التكلفة الحقيقة للفدان حوالي 11 ألف جنيه مصري ثم تقوم ببيعه للمستثمرين بمبلغ خمسين جنيه تحت دعوى تشجيع وجذب الاستثمارات الأجنبية. ومن المؤسف أنه بعد كل هذه التسهيلات- أو التساهلات – قد تقاعست الشركات المستثمرة عن الوفاء بالتزاماتها وتعثرت أنشطتها الاستصلاحية والاستثمارية في توشكى.
إن مصر اليوم لا تمتلك رفاهية التجربة والخطأ، وليس لديها القدرة الاقتصادية على إهدار المزيد من المال العام والموارد أو تحمل نتائج الأداء المتدنى، ولذلك فلابد من الدراسة المتأنية لتجربة توشكى لمعرفة أوجه القصور وأسباب تعثر وانحراف المشروع عن تحقيق أهدافه بهدف استخلاص الدروس “للفرافرة” حتى لا تكون توشكى أخرى.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-aFg