واذا اخذنا مؤشر الفساد لعام (2011) نجد أنه تراجع لدينا إلى (45%)، وأن ترتيب الأردن هو (56) من بين (184) دولة. وهو ترتيب بشكل عام ليس سيئا. ولكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في بلد مثل الأردن يجعله أكثر حساسية للفساد، ويجعل ضرره أعمق أثراً، وأشد خطورة من دول أخرى كبيرة أو غنية، نحن أفضل منها، مثل تركيا (42%) و إيطاليا (39%) وتونس (38%) والهند (31%) ومصر (29%).
ومن جهة ثانية فإن الكلفة الاقتصادية للفساد، تقدر بالنسبة لنا في حدود (15%) من الناتج المحلي الاجمالي. وهذا حجم هائل يعادل ما يقرب من (3) مليارات دينار سنوياً. أي ان كل فرد في الأردن يتضرر من الفساد بمقدار (475) دينارا سنوياً.
وهذه الإضرار تذهب بين رشاوي ( تقدر ب 700 مليون دينار)، و أموال تهدر أو تسرق،و موارد يساء استخدامها و فرص ضائعة ، و تعطيل لآلة الانتاج وتدني الانتاجية بسبب الاحباط وسوء الادارة، و غياب الأهلية ،أو سواها. و هي ارقام ضخمة وخطيرة بكل معنى الكلمة. وهو حجم اذا تم تقليصه ولو إلى النصف من خلال مضاءلة الفساد،فإنه يمكن للدولة، مع حسن الإدارة وصدق الإرادة، أن تنطلق إلى آفاق اقتصادية واجتماعية أفضل بكثير.
وأمام أي برنامج اصلاحي مسألتان حيويتان للغاية في هذا الشأن. الأولى: كيف نبدأ مرحلة جديدة نمنع الفساد فيها لكي لا يقع في الأيام والسنوات القادمة؟ أو بمعنى آخر كيف نوقف سيل الفساد و نجفف منابعه ؟ ونجعل مستقبل ابنائنا أقل فساداً وأكثر نزاهة ونقاء؟ والثانية: كيف ومتى يمكن محاسبة من تورطوا في الفساد وكيف يمكن استرداد ما نهبوه من ثروات؟.
ان منع الفساد في القادم من الأيام لا يتحقق الا بشروط ستة الأول: الشفافية والمساءلة والثاني: سيادة القانون واستقلالية القضاء ونزاهته والثالث التعرف على مداخل الفساد وأدواته في كل نشاط أو مؤسسة والرابع: إزالة الظلم الاجتماعي وإشاعة العدل والمساواة والتكافؤ بين المواطنين بدون استثناء والخامس نشر ثقافة و تربية وطنية جماهيرية و مؤسسية مضادة ورافضة للفساد والسادس الفصل القاطع بين المال والسلطة من خلال القوانين و العقوبات والرقابة البرلمانية والشعبية.
وواضح أن مثل هذه الشروط لن تتحقق إلا في ظل ديموقراطية حقيقية، وبرلمان منتخب بكل نزاهة، ومشاركة مجتمعية، وعدم تغول السلطات الواحدة على الأخرى،واقتراب علمي من المشكلة. وهذا يستدعي أولاً: متابعة ملفات القضايا والمشاريع والأشخاص الذين تحيط بهم الشبهات دون تعسف أو افتراء.ثانيا: أن تطلب الحكومة إلى كل مؤسسة ودائرة ونشاط وضع وثائق تفصيلية تبين مداخل الفساد المحتملة في العمل وكيفة التعامل معها. وعلى ضوء ذلك، وبالاستفادة من الخبرات والوثائق الدولية، تصدر الحكومة لوائح تفصيلية تحدد ما هو الفساد في نظر القانون، وتكون الوائح متاحة للجميع واذا ما تم ذلك فإنه يمكن وضع الضوابط الإحترازية والروادع التي تحول دون الانزلاق في هذه المداخل ثالثا: اصدار مدونات السلوك اللازمة وتغليظ العقوبات المتعلقة بالفساد بشكل تصاعدي رابعا: توسيع قاعدة اشهار الذمة لتشمل أعداداً أكبر من المسؤولين في القطاع الخاص والعام.
ومن جهة ثالثة، فإن خط الدفاع الأكبر لدى أهل الفساد هو الهجوم في كل اتجاه، واشاعة القصص والأقاويل، والايحاء للرأي العام بأن الفساد في كل مكان، ولدى كل شخص، وفي كل دائرة ،و التشكيك في مصداقية المكافحة،والدعوة إلى الاستعجال المفرط. وبذلك تضيع المسؤولية ولا تعرف الدولة من أين تبدأ، والأهم لا تعرف كيف تنتهي. وللخروج من هذا التشويش المعقد يمكن الاستفادة من تجارب بعض الدول وعلى النحو التالي. أولاً: بالتوازي مع ما يجري من فتح للملفات ،تعلن الحكومة أو هيئة مكافحة الفساد أو مجلس القضاء الأعلى عن مهلة استثنائية للمخالصة والمصالحة مدتها (6) أشهر يتقدم خلالها كل شخص حصل على شيء من الدولة بدون وجه حق، مالاً أو عقاراً، يتقدم بإعادته وإرجاعه مقابل اعفائه من أية عقوبات، واعتبار ذلك مصالحة قانونية تتم بهدوء وكتمان. ثانياً بعد انتهاء مهلة المخالصة والمصالحة تضاعف جميع الدوائر ذات العلاقة جهودها بملاحقة من تورطوا في الفساد وتقديمهم إلى القضاء العادل دون تعسف أو انتقام أو تشهير أو تشويه. وهناك أدوات أو آليات كثيرة تجعل ذلك ممكناً. إن سد جميع الأبواب على من تورطوا في الفساد دون فتح باب للمصالحة، قد يدفعهم إلى الامعان في اشاعة الفوضى وايذاء المجتمع من خلال زعزعة تماسكه وتشويه مؤسساته.
وأخيراً، ومع الايمان المطلق بأن العدالة ينبغي أن تأخذ مجراها على الجميع بدون استثناء، وفي جميع الأحوال ،فإن المستقبل أكثر أهمية من الماضي. والحرص على الإسراع في انجاز برنامج الإصلاح، و بناء مستقبل وطني خال من الفساد وخال من الاحقاد والضغائن ،هو أكثر أهمية من الاستغراق المفرط في الماضي والبحث في الزوايا المعتمة التي تستغرق الوقت والجهد الكثير.