كثيرا ما نسمع عن مصطلح ”العمل المؤسسي” الذي دخل حياتنا الإدارية والتنظيمية في الآونة الأخيرة وأصبح يتردد بين الحين والآخر وينادي به كثير من القياديين والعاملين على اعتبار أنه المنقذ من التدهور الإداري والفساد المالي والخلل التنظيمي الذي تعيشه منظماتنا، لكن ما العمل المؤسسي؟ ماذا يقصد بهذا المصطلح؟ والذي جعلني أسال مثل هذا السؤال وأتطرق إلى مثل هذا الموضوع ما لاحظته من كثرة مناداة بعض القيادات وتكرار ترديد مفهوم العمل المؤسسي، وأظنهم غير مدركين أن تطبيق العمل المؤسسي سيفقدهم الكثير من امتيازاتهم ويجعلهم تحت المساءلة والمناصحة، بل أيضا تقديم الاستقالة والمحاكمة إذا لزم الأمر.
ولكي يتضح مفهوم العمل المؤسسي أراني مضطرا أن أعود إلى أبرز نظريات الفكر الإداري الحديثة منها والتقليدية، حتى يكون النقاش موضوعيا وذا قيمة، سأوثق ما أقوله بتجارب المديرين التنفيذيين للمنظمات الناجحة.
كي نفهم مصطلح ”العمل المؤسسي” يجب علينا أن ندرك أن هناك نظريتين متناقضتين، وفي الوقت نفسه مكملتان بعضهما بعضا وهما نظرية ”المؤسسة الرائدة” وأسطورة ”القائد الفذ”. أسطورة الرجل العظيم أو ”القائد الفذ” إحدى الأفكار القيادية التقليدية التي انتشرت في بداية القرن التاسع عشر، وتقوم هذه الفكرة على بناء القائد شخصيته وإهمال شخصية المنظمة، ولهذا ستظل المنشأة قائمة ولديها القوة على التغيير والنمو طالما بقي القائد، لكنها ستتوقف وتنهار بسرعة فائقة عندما يرحل عنها بنقل أو ترقية أو وفاة، وقد تبنت شركة زينث هذه الفكرة عندما وصف موظفوها قائدهم ”ماكدونالد” بالمفكر العنيد المتألق. وتتحاشى المنظمات التي تطمح إلى البقاء والاستمرارية هذا النوع من النظريات، لأنه مرتبط برموز وليس بفكر.
واستبدلت أسطورة ”القائد الفذ” بفكرة ”المنشآت الرائدة”، حيث يبني القائد المنشأة وتكون لديها آلية البقاء والقدرة على التطوير والتغيير الذاتي حتى لو رحل عنها مؤسسها، لأنه أنشأ داخلها خاصية النمو الذاتي، ومن أمثلة ذلك شركة موتورولا، ماريوت، بوينج، وسوني. وبناء خاصية النمو الذاتي للمنشآت يحتاج إلى إبداع وعبقرية، فالقائد يصمم نظاما قادرا على استقطاب الكفاءات المتميزة وقذف الرديء من القياديين والعاملين والمتعاملين. فهذا النظام يشبه – إلى حد ما – جسم الإنسان الذي يحتفظ بالجيد من الطعام والشراب ونحوه ويقذف الرديء من الميكروبات والفيروسات. يقول سام ولتون مؤسس شركة وال مارت التي تتبنى هذا الفكر: ”كنت دائما أريد بناء أفضل منظمة للبيع بالتجزئة بقدر ما في وسعي”، وها هي وال مارت ما زالت متألقة ومستمرة ومستقرة رغم رحيل زعيمها سام ولتون عام 1992.
ونريد أن نخلص هنا ونقول إن العمل المؤسسي مزيج من دمج نظريتين متناقضتين (المؤسسة الرائدة والقائد الفذ) يعملان معا بتناغم كما تعمل الثنائية الصينية.
دعونا نعود الآن إلى فكرنا الإداري والقيادي لنرى أين نحن من العمل المؤسسي وفقا للعرض السابق. عند تحليلنا الفكر الإداري والقيادي لمنظماتنا وفقا لهذين المبدأين يظهر أن غالبية مؤسساتنا تتبنى الفكر القيادي العتيق المتمثل في ”أسطورة الرجل الفريد” ذي الشخصية البراقة وتغيب فكرة ”المنشأة الرائدة”، رغم أن الكثيرين ينادون بذلك، لذا نراها تبني أعمالها التشغيلية وأهدافها واستراتيجياتها – إن وجدت – على أساس وجود القائد، فإذا رحل عنها توقفت عن الحركة والإنتاج. وعندما يتولى دفة القيادة قائد آخر يوجهها وجهة أخرى، وقد يعود بها إلى نقطة ”الصفر” في كثير من أنشطتها بحجة التطوير والتجديد، وهذا لعمري سبب تخبط كثير من المنشآت وعدم نضجها ونجاح خططها وتجاربها لارتباطها برموز قيادية وليس بعقيدة تنظيمية.
بطبيعة الحال يعد القائد المؤهل من سمات المنظمات الناجحة، لكن ليس لدرجة أن غيابه يفقد المنشأة صوابها فتثبت في مكانها أو تنحرف عن طريقها.
إضافة إلى تخلي منظماتنا عن فكر ”المنشأة الرائدة”، فإنها تفتقر إلى برامج إعداد القادة، كما أن ليس لديها خطة للخلافة، الأمر الذي أدى إلى خلو المنظمات الحكومية وغير الحكومية من القيادات المؤهلة. طريقة المحاولة والخطأ التي تتبناها المنظمات في تدريب الموظفين هي نفسها التي تستخدمها عند إعداد القادة عن طريق تمرير بعض منسوبيها على المراكز القيادية لسنوات عدة وترى أن هذا يكفي. وبهذا يكتسب القائد خبرته الإدارية والقيادية من الميدان عن طريق التجربة والخطأ، فهو لم يعد ولم يدرب ولا يدري من أين يبدأ وإلى أين يتجه، إضافة إلى أن طريقة اختياره من البداية لم يراع فيها فكر ”المنظمة” بل فكر ”القائد”.
وللتغلب على ذلك يجب على منظماتنا أن تفعل مصطلح التنمية الإدارية وبرامج إعداد القادة للمحافظة على المنشأة كمنظومة وكفكر مستقل وكنظام يطوع ويهذب فكر القائد ويشعره بالتبعية وليس العكس. وهذا الموضوع أرق جاك ولش، المدير التنفيذي في ”جنرال إلكتريك”، حيث قال قبل موعد تقاعده بتسع سنوات: ”من الآن فصاعدا، صار اختيار خليفتي أهم قرار سأتخذه، وهذا يشغل جانبا كبيرا من تفكيري”.
وأخيرا نود من القياديين الذين يجترون مصطلح ”العمل المؤسسي” ويختمون به تصريحاتهم وخطبهم وتوجيهاتهم أن يعووا بالضبط ما المقصود منه، وهل هم بالفعل مستعدون للعمل به؟
*نقلا عن الاقتصادية
المصدر : https://wp.me/p70vFa-1IQ