بمجرد ذكر اسم “ليبتون” يتطرق إلى أذهان الجميع “الشاي”، ولكن خلف هذه العلامة التجارية الشهيرة قصة استثنائية لرجل أعمال ثري ورياضي تم وصفه بلقب “أفضل خاسر في العالم” كما سردتها “بي بي سي” في تقرير.
متاجر “ليبتون”
في “جلاسكو” عام 1871، استغل البريطاني “طوماس ليبتون” جميع مدخراته في افتتاح متجر باسمه لبيع منتجات البقالة وبحلول عام 1880، توسع “ليبتون” بتجارته لتصل إلى 200 فرع لمتجره في مناطق مترامية الأطراف في بريطانيا ومستعمراتها.
في أوائل ديسمبر/كانون الأول عام 1881، كانت سفينة بخارية تحمل على متنها شحنة استثنائية من أمريكا إلى بريطانيا، وتتمثل هذه الشحنة في “الجبن” على شكل عجلات محيطها أربعة أمتار، وكان المئات يترقبون هذه الشحنة حيث نقلت إلى متجر “ليبتون” في “هاي ستريت”، وتم الترويج للجبن بأنه نتاج حليب أكثر من 800 بقرة.
تمكن “ليبتون” من تحويل متاجره إلى مناجم للذهب بفضل الجبن الذي كان ينتظره الكثيرون ويصطفون بالمئات أمام متاجره حتى أن رجال الشرطة كانوا يجدون صعوبة في تنظيمهم حتى يظهر عليهم “ليبتون” وهو يقطع شرائح هذه السلعة الرائجة.
كان الكثيرون يعتبرون أنفسهم محظوظين لو حصلوا حتى على شريحة من الجبن المباع في المتاجر التي يمتلكها “ليبتون” الذي تحول من فقر مدقع أثناء طفولته في “جلاسكو” إلى نجاح مبهر وثروة طائلة.
ولد “ليبتون” عام 1848 من أب هاجر عبر البحر الآيرلندي، وتعلم “ليبتون” الدرس الأول في تجارة التجزئة من والده الذي أسس متجرا صغيرا، وعندما كان “طوماس” طفلا في العاشرة من عمره، كان يلتقط السلع الغذائية التي تتساقط من السفن في الموانئ، وهو ما أبهر البحارة والعمال.
في الخامسة عشرة من عمره، عمل الصبي “طوماس ليبتون” على متن سفينة بخارية، وبعد ذلك بعامين، تمكن من جمع أموال تكفيه للسفر إلى أمريكا، وحصل هناك على عدد من الوظائف مثل العمل في صناعة التبغ وزراعة الأرز في ولايتي “فرجينيا” و”كارولاينا الجنوبية”، ولكن نيويورك كانت الملهم الأكبر بالنسبة له.
في “برودواي” بنيويورك، عمل “طوماس ليبتون” في متجر كبير امتلكه المهاجر المنحدر من أصول آيرلندية “ألكساندر تيرني ستيوارت”، وتعلم به العديد من المهارات في البيع بالتجزئة من خلال استراتيجيات متنوعة في البيع والتسعير.
عاد “طوماس” بعد ذلك بخمس سنوات إلى “جلاسكو” باحثا عن الثروة والنجاح وفي جعبته المهارة والتدريب والرؤية، ورغم أنه كان لا يزال في مطلع العشرينيات من عمره، إلا أنه امتلك أول متجر خاص به تحت اسم “ليبتون ماركت”.
عمل في المتجر موظفو مبيعات دربهم “طوماس” بنفسه، وضم العديد من السلع مثل عجلات الجبن واللحوم وغيرهما، واهتم كثيرا بالنظافة مع توفير خصومات وعروض على الزبائن.
الخروج من الطبقة المتوسطة
كان الأمر بمثابة وصفة للنجاح حيث انتشرت العديد من المتاجر في المملكة المتحدة تحمل نفس الاسم “ليبتون ماركت”، ولكن الأمر مجرد بداية لأن “طوماس” علم في قرارة نفسه بأنه يعتمد على سلسلة من المنتجات فائقة الجودة التي يستورد العديد منها.
رأى “ليبتون” ضرورة الذهاب بنفسه إلى منابع السلع والمنتجات المختلفة لعقد صفقات بشأنها ثم وظف لاحقا أحد الأشخاص المحليين لمقابلة المزارعين قبل وصول محاصيلهم ومنتجاتهم إلى الأسواق وعقد صفقة بسعر أفضل.
كان الأمر بمثابة خطوة ثورية نظرا لأنها كانت طريقة جديدة لإدارة نشاط تجاري في ذلك الوقت – ويعتمد على هذه الاستراتيجية الكثير من التجار حاليا – ولكن بسبب العديد من الصفقات مع المزارعين، نفدت السيولة تقريبا من “ليبتون”، وهو ما اضطره لبيع ساعته الذهبية مقابل “30 شيلينج” حتى تم بيع العديد من السلع، وزادت السيولة مجددا.
بعد هذه الصفقات، أصبحت المتاجر زاخرة بالعديد والعديد من المنتجات والسلع بأسعار تنافسية من الألبان والجبن إلى الزبد واللحوم في متاجر مترامية الأطراف في اسكتلندا مع الترويج بوسائل إعلانية مختلفة، وكان “طوماس” يدير المتاجر بنفسه دون الاعتماد على أحد.
علاوة على ذلك، كانت السلع جميعها تغلف وتعبأ وتوزع وتنقل عن طريق متاجر “ليبتون” نفسها لا أطراف أخرى.
بعد التوسع كثيرًا في بريطانيا، حان الوقت لاتخاذ الخطوة التالية لغزو أمريكا – بمتاجره – وبدأها بشراء مصنع لتجهيز وتعبئة اللحوم في الولايات المتحدة وأطلق اسم والدته عليه.
بالعودة إلى بريطانيا، كان الجبن بمثابة سلعة تقليدية تجذب المستهلكين قبيل أعياد الكريسماس، واستخدم “ليبتون” أساليب جديدة في التسويق والترويج لمنتجاته مثل استخدام فيل لنقل الجبن في مدينة “نوتنجهام”.
عام 1887، عرض “ليبتون” هدية على الملكة “فيكتوريا” كانت عبارة عن “جبن” يزن خمسة أطنان، ولكنها رفضت الهدية – بشكل ذوقي – دون إبداء أسباب.
“الشاي”
رغم كل هذا النجاح، كان “ليبتون” دائما يسعى إلى بلوغ الخطوة التالية في أنشطته التجارية، وكانت هذه الخطوة عبارة عن سلعة ارتبطت باسمه حتى يومنا هذا..ألا وهي “الشاي”.
كان الشاي سلعة ثمينة للغاية بل إن قيمتها كانت تتجاوز الذهب – بنفس الوزن – وكان يعبأ في علب مزخرفة قابلة للغلق، ولكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر، انهارت أسعار الشاي وسرعان ما أصبح المشروب الرائج لدى الطبقة المتوسطة في عصر الملكة “فيكتوريا”.
كانت البداية عندما سافر “ليبتون” في مايو/أيار عام 1890 إلى سريلانكا لشراء أول محصول شاي لمتاجره، وعلى غرار السلع الأخرى، عقد “ليبتون” صفقات مع المزارعين لتوريد الشاي إليه ومحاولة الحصول على أسعار تنافسية أفضل من المتاجر الأخرى.
كانت المتاجر التي تبيع الشاي تقليدية ولا تحافظ على هذه السلعة الثمينة بل إن المذاق كان يختلف وشكل التغليف والتعبئة والتسويق، ولا يعتمد على جودته في الكثير من الأحيان.
أما “ليبتون”، فقد اعتمد على فكرة جديدة بأن يكون مذاق الشاي موحدا مع تعبئته بشكل فريد يحافظ على مذاقه طازجا دون أي تغير حتى بعد شرائه من المتجر، وبحلول ذلك الوقت، كانت متاجر “ليبتون” تقع في أفضل الشوارع الأنيقة في لندن، ودخل “طوماس” نفسه إلى دائرة المجتمع الراقي في حقبة الملكة “فيكتوريا”.
عندما أقامت أميرة “ويلز” “ألكساندر” حفلا لجمع التبرعات بمناسبة العيد الماسي لجلوس الملكة “فيكتوريا”، كان “ليبتون” هو من أنقذ حفل التبرعات عندما منح 25 ألف جنيه إسترليني (أي ما يعادل مليوني جنيه إسترليني بالقيمة الحالية).
حصل “ليبتون” لاحقا على لقب “سير” من ملكة بريطانيا، وانضم إلى أعلى طبقة في البلاد، وفي عام 1898، طور هيكل شركته، وامتلك لنفسه الهيمنة كما أصبحت لديه ثروة بحوالي 120 مليون جنيه إسترليني (حوالي مليار جنيه إسترليني حاليا).
قبل أكثر من قرن من ظهور “ستيف جوبز” و”ريتشارد برانسون” و”إيلون ماسك”، ربما كان السير “طوماس ليبتون” هو صاحب فكرة إنشاء علامة تجارية تُبنى حول صاحبها.
كان وجهه ومشاركاته الرياضية في بريطانيا توضع على منتجات الشركة، وكان الجميع يريدون التقاط صور بجانبه كواحد من المشاهير.
توفي “طوماس ليبتون” عام 1931 بعد أن بنى علامة تجارية لا يزال صيتها ذائعا حتى الآن وحصل العديد من الأوسمة وتم تكريمه في العديد من المناسبات، ومنح جزءا كبيرا من ثروته لمواطني “جلاسكو” – مسقط رأسه.
اصطف الكثيرون في الشوارع لحضور جنازته ودفن على بعد حوالي 1.5 كيلومتر من شارع “جورلز” الذي ولد فيه.
في يومنا هذا، لا يتذكر الكثيرون متاجر “ليبتون” أو “ليبتون ماركت”، ولا يعرف اسمه فقط سوى على الشاي، وتمتلك شركة “يونيلفر” اسم العلامة التجارية الشهيرة حاليا.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-vPl