يمرض الناس، ثم يقوم العلماء بتطوير دواء لعلاج ذلك المرض، تنتجه وتسوق له لاحقاً شركات الأدوية… هذه هي النظرة البسيطة الراسخة في ذهن الكثيرين حول كيفية سير الأمور في صناعة الدواء. لذلك قد يتفاجأ البعض حين يعلم أن هذه العملية تكون معكوسة في كثير من الأحيان، بمعنى أن يتم تطوير الدواء أولاً ثم اختراع مرض يمكن لذلك العقار معالجته.
ما يحدث عادة يكون كالتالي: تقوم الفرق البحثية التابعة لشركات الأدوية بتطوير دواء له مجموعة من الآثار الفسيولوجية التي لا يمكن اعتبارها مهمة، ثم ينتهي دورهم هنا، ويبدء دور قسم التسويق الذي يحاول إيجاد مرض يناسب هذا الدواء.
بعد ذلك، يقوم مندوبو القطاع الصيدلي بإقناع الأطباء بوصف هذه الأدوية لمرضاهم الذين غالباً ما يصرون على الحصول على أي دواء بمجرد زيارتهم للطبيب حتى وإن لم يكن بهم علة صحية، ويرجع ذلك في جزء منه إلى تعرضهم لحملات إعلانية مكثفة تحاول إقناعهم باحتمال إصابتهم بمرض شبه وهمي جديد.
في كثير من الأحيان، يتم اختيار مرض نادر، لا يصيب مثلاً إلا واحدا من بين كل 100 ألف والعمل على نشره ليشمل المزيد من المرضى، وبالتالي ينتشر الخوف منه والحرص على تجنبه بين أعداد أكبر.
بمجرد حصول ذلك المرض على درجة معقولة من الشرعية الثقافية بين الناس، تختفي الحاجة لإقناع أي شخص بضرورة الحصول على دواء ذلك المرض، والذي يحصل عليه الشخص معتقداً أنه اشتراه دون أن يجبره أحد على ذلك، وهذا نظرياً صحيح، لأنه في نهاية المطاف، لم تقم الشركة المصنعة لذلك الدواء بطرق بابه، بل هو من فعل.
– في الستينيات، قامت “ميرك آند كو” – إحدى أكبر شركات الدواء في العالم – بوضع إستراتيجية لنشر مرض الاكتئاب عقب اختراعها مضادا جديدا له سمته “أميتريبتيلين”. في ذلك الوقت كان الاكتئاب الإكلينيكي يعتبر حالة نادرة جداً، لذلك كان من المنطقي أن تتوقع الشركة عدم تحقيقها أرباحاً كبيرة من تسويق عقارها الجديد.
– “زيادة وتيرة التشخيص بالمرض”.. هذه هي الفكرة التي قفزت في رأس إدارة الشركة. وتحقيقاً لتلك الغاية، اشترت “ميرك” 50 ألف نسخة من كتاب “فرانك أيد” المسمى “المريض المكتئب” وقامت بتوزيعها مجاناً على جميع الأطباء النفسيين في الولايات المتحدة.
– نتيجة لذلك، بدأت كلمة “أميتريبتيلين” (اسم العقار) يتم خطها كثيراً من قبل الأطباء في وصفاتهم الطبية. وعلى الرغم من حقيقة أن مضادات اكتئاب مشابهة كانت متاحة في ذلك الوقت – مثل “إيميبرامين” الموجود في السوق من منتصف الخمسينيات – إلا أن “ميرك” نجحت من خلال حملاتها التسويقية في ربط نفسها بعلاج ذلك المرض في لاوعي المريض.
– في عام 1879 اختُرع الليسترين، الذي كان يعتبر في الأصل مطهرا جراحيا، سمي بهذا الاسم نسبة إلى الجراح الإنجليزي الشهير “جوزيف ليستر” الذي قام بإجراء أول عملية جراحية باستخدام مادة مطهرة.
– كان مخترعا الليسترين “جوزيف لورانس” و”جوردن لامبرت” يبيعانه في البداية في صورته المركزة كمنظف للأرضيات. ولكنهما في عام 1895 بدآ في تسويقه لأطباء الأسنان لرعاية الفم. بحلول عام 1914 أصبح الليسترين أشهر غسول للفم في الولايات المتحدة، ولكن دون أن يتم تداوله طبياً بشكل رسمي.
– بحلول العشرينيات، أصبحت شركة “لامبرت فارماكال كومباني” منتجة الليسترين واثقة من أنها تمتلك علاجاً، وأن كل ما تحتاجه هو المرض. وبالفعل وجدوا واحداً وهو “رائحة الفم الكريهة”.
– قبل ذلك الوقت كانت رائحة الفم الكريهة عبارة طبية غامضة لم يسمعها أحد تقريباً. ولكن الشركة بدأت في التسويق لليسترين كعلاج لتلك الحالة، وكما هو متوقع، لم يفعلوا ذلك بشكل مباشر، حيث قاموا بالتركيز على تأثير رائحة الفم الكريهة على فرص أي شخص في النجاح في الزواج والعمل. وفجأة أدرك أغلب الشعب الأمريكي معاناته من رائحة الفم الكريهة، وبدأو في البحث عن العلاج، وكان في انتظارهم “الليسترين”.
تأويل مضلل لأعراض طبيعية
– أعداد ليست قليلة من البشر في مراحل عمرية مختلفة وخصوصاً في سن المراهقة يسيطر عليها الخجل في مواقف معينة. للوهلة الأولى يبدو هذا بالنسبة للأغلبية وضعا طبيعيا ومفهوما، ولكن شركات الأدوية لا تشارك هؤلاء الرأي، حيث تعتبر هذه الحالة مرضاً يسمى “اضطراب القلق الاجتماعي”.
– وفقاً لشركات الأدوية، يعاني 80% من البشر من “اضطراب القلق الاجتماعي” في فترة ما في حياتهم. تشخيص أي إنسان بهذا المرض تؤهله تلقائياً للحصول على مضاد الاكتئاب. هذا ما حدث في الولايات المتحدة بمساعدة إدارة الغذاء والدواء. وكالعادة، حافظت شركات الأدوية على نهجها المراوغ في الترويج للمرض، ثم ترك الناس يأتون إليها بحثاً عن العلاج.
– قامت شركة “جلاكسو سميث كلاين” المنتجة لعقار “باكسيل” باستئجار شركة علاقات عامة، من أجل إدارة حملة تهدف إلى إقناع أكبر عدد ممكن الأشخاص بأنه قد يكون لديهم “حساسية” تجاه التعامل مع الناس. وبدورها قامت شركة العلاقات العامة بالتعاقد مع الأطباء النفسيين الأكاديميين الذي عقدوا مئات المحاضرات التي كان جل تركيزهم فيها هو ما يسمى بـ”اضطراب القلق الاجتماعي”.
– قبل اعتماد “بايكسل” من قبل إدارة الغذاء والدواء، كان هناك نحو 50 مرجعاً فقط حول هذا التشخيص، ولكن بفضل حملة العلاقات العامة التي أطلقت في عام 1999، أصبح هناك أكثر من مليار مرجع. وفي غضون عامين فقط أصبح “باكسيل” سابع أكثر الأدوية ربحية في أمريكا، وثالث أكثر الأمراض العقلية شيوعاً في العالم.
تكتيكات الخداع .. وخطورة هذا النهج
– في كتابها الصادر عام 1992 تحت عنوان “مروجو الأمراض: كيف تجعلك شركات الأدوية وشركات التأمين تشعر بالمرض” تشير كاتبة العلوم الصحية “لين باير” إلى التكتيكات التي تستخدمها شركات الأدوية في خداع الناس من خلال إقناعهم بإصابتهم بأمراض معينة على غير الحقيقة. هذه التكتيكات من بينها:
1- التركيز على وظيفة طبيعية في جسم الإنسان، والتلميح إلى وجود عارض ما بها، وضرورة معالجته.
2- محاولة إقناع المريض بوجود علل ليست فيه، إلى أن يتهيأ له وجودها.
3- الترويج إلى وجود أعداد كبيرة من السكان يعانون من “المرض”.
4- الإشارة إلى “المرض” باعتباره خللا وظيفيا معينا أو شكلا من أشكال عدم الاتزان الهرموني.
5- توظيف الأطباء لنشر وترويج هذه الرسالة.
6- استخدام الإحصاءات بشكل انتقائي للمبالغة في فوائد العلاج.
7- الترويج للدواء باعتباره خالياً من أي أعراض جانبية.
8- أخذ أي أعراض شائعة وجعلها تبدو وكأنها علامة على مرض خطير.
– أخيراً، أخطر ما يكتنف هذا الأسلوب الملتوي الذي تتبعه شركات الأدوية، هو العبء النفسي الضخم الذي يقع على أكتاف كل من تنجح تلك الشركات في إقناعه على خلاف الحقيقة بإصابته بمرض ما. فإلى جانب التكلفة النفسية، هناك تكاليف مالية واجتماعية. فالأدوية التي تبيعها تلك الشركات ليست رخيصة. وفي الغالب لا يمكن لنظم الرعاية الصحية في الدول المتقدمة قبل النامية تغطية تكاليف أدوية جميع الأمراض الوهمية التي يرغب أباطرة القطاع الدوائي في معالجة البشر منها، بحسب ارقام.