كيف أصبح “الابتكار” ضرورة ملحة لنجاح الشركات والمؤسسات؟

منوعات
8 يونيو 2016آخر تحديث : منذ 9 سنوات
كيف أصبح “الابتكار” ضرورة ملحة لنجاح الشركات والمؤسسات؟
160607141722_how_firms_can_avoid_being_boxed_in_640x360_gettyimages_nocredit

كان لديّ ذات يوم رئيسٌ في العمل الصحفي؛ يُصاب بالشلل تقريبا كلما استمع لمن يتحدث عن “الابتكار” أو “التجديد”.
وفي سياق تبريره لموقفه هذا كان يقول: “الناس لا يفهمون ما الذي تعنيه هذه الكلمة”، قبل أن يصدر فرماناً موجهاً لي مفاده “لا تستخدمها”.
وجعل ذلك الفرمان إعداد البرامج التي تتناول عالم المال والأعمال أمراً صعباً إلى حد ما، فقد ولّت حقبة القيام بالأمور مرارا وتكرارا على نفس الشاكلة، عقداً تلو آخر. إذ أصبحت الشركات والمؤسسات بصدد مواجهة تغيرات خارجية من جهة، وكذلك بحاجة ملحة لتغيير نفسها من جهة أخرى.
وهكذا بات السير على طريق الابتكار والتطوير والتجديد مسألة وجودية ترتبط ببقاء الشركة ذاتها، لا أقل من ذلك.
على أي حال ترك رئيسي منصبه؛ ولذا صار بوسعي – مثل كثيرين آخرين – الحديث عن “الابتكار”، فالحاجة إليه صارت من بين الشواغل والهموم الشائعة بالنسبة للشركات والمؤسسات. غير أن الإقرار بأهمية ذلك الأمر لا يجعل تجسيده على أرض الواقع أكثر سهولة.
وفي هذا الصدد، يمكن التماس المساعدة من فيجاي غوفيندراجِن؛ الأستاذ الجامعي المخضرم في أقدم كلية لعلم إدارة الأعمال في العالم؛ وهي “معهد تَك لإدارة الأعمال” في كلية دارتموث بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وقد كان كذلك كبير الخبراء الاستشاريين في قسم الابتكار والتطوير بشركة “جنرال إليكتريك”.
فأحدث كتب هذا الرجل؛ الذي يحمل عنوان “حل الصناديق الثلاثة”، يتضمن بعض الرؤى الرائعة والجديرة بالملاحظة، في ما يتعلق بعملية الابتكار والتطوير.
وقبل التطرق لما ورد في الكتاب؛ ربما يجدر بنا أن نتحدث قليلا عن غوفيندراجِن نفسه، الذي وُلِد في قرية بجنوب الهند، لا تبعد كثيرا عن مدينة “تشناي”، التي كانت تُعرف آنذاك باسم “مدراس”. وخلال صباه، كان لجَدِه “تِغور ثَثا” الأثر الأكبر في شخصيته، إلى حد أنه أفسح لصورته مكاناً في الجزء الخاص بالإهداء في الكتاب.
وربما لم يسمع أحد منا بهذا الجَد من قبل؛ فقد مكث في داره عاكفاً على القراءة، إذ كان يبدي توقيراً واحتراماً للمعرفة أكثر من أي شيء آخر؛ بما في ذلك العمل.
“المستقبل الآن”
وعلى درب جده؛ انغمس غوفيندراجِن في الدراسة؛ بدايةً في الهند ثم في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة. وقد أخبرني يوماً بواقعة محددة ظل يتذكرها بوضوح، رغم أنها وقعت بعد تخرجه مباشرة كمحاسب في عام 1977.

في ذلك الوقت، شهدت الهند صخباً واسع النطاق، بعدما طُردت شركة “كوكاكولا” من البلاد، على يد حكومة طلبت منها أن تتشارك في أسرارها التكنولوجية مع شركاء محليين. ولكن الشركة رفضت أن تشارك أي طرف آخر في تركيبة مشروبها، وهو ما خلّف تأثيرا عميقا في نفسه.
وعندما بدأ الدراسة، ومن ثم العمل في الولايات المتحدة، نظر غوفيندراجِن إلى القيم الغربية، أو حتى القيم السائدة عالمياً، من خلال منظور يستند إلى خبرته الهندية هذه، وهو منظور ذو قيمة كبيرة، فالأفكار المألوفة التي يمثل قبولها أمراً مفروغاً منه لدى المديرين في الغرب، تبدو مختلفة قليلاً من وجهة نظر المفكرين الهنود في علم الإدارة، ممن يشغلون حاليا مناصب مرموقة في المجال الأكاديمي.
وقد تخصص غوفيندراجِن في التعامل مع علم إدارة الأعمال من ذاك المنظور المختلف.
وفي كتاب أصدره سابقاً، وحمل عنوان “الابتكار المعاكس”، تناول الرجل المبتكرات والمنتجات التي ظهرت في العالم النامي، دون أن تكون مأخوذةً عن نظيراتٍ لها أُنتجت خصيصا من أجل أسواق الدول المتقدمة والثرية، وهو أمر يختلف تماماً مع الطريقة التي تفكر بها أي شركة متعددة الجنسيات تقليدياً، بشأن كيفية طرح منتجاتها الجديدة؛ إذ تعرضها في بلدانها أولاً، ثم في باقي أنحاء العالم بعد ذلك.
أحدث كتبه يتناول كذلك مفهوم الابتكار والتطوير، ويضرب بجذوره أيضاً في ذاك المنظور الهندي الخاص بكيفية إدارة الأعمال. فالفلسفة الهندوسية القائمة على ثالوث “الخلق والحفظ والتدمير”، تشكل أساساً لهذا الكتاب. وفي الهندوسية؛ يمثل هذا الثالوث دائرةً متصلة، لا بداية لها ولا نهاية.
على أي حال، هذه الفكرة ليست مخيفة كما تبدو للوهلة الأولى. فمن خلال بلورته لمفهوم “الصناديق الثلاثة”، التي يتعين على أي شركة التركيز عليها خلال عملية اختيارها للمسار الذي ستمضي فيه صوب المستقبل؛ ربما يكون بوسع غوفيندراجِن تمكين مديري هذه الشركة والعاملين فيها، من التفكير خارج صندوقٍ عَلِقوا فيه، بفعل خبراتهم التقليدية والمعتادة.
وبحسب غوفيندراجِن، يحمل الصندوق الأول اسم “إدارة شؤون الشركة في الوقت الحاضر”، أما الثاني فيُسمى “النسيان الانتقائي للماضي”، أما الثالث فهو صندوق “خلق المستقبل”.
ويقول غوفيندراجِن إن الصعوبة التي تواجه أي عمل تجاري، تتمثل في الموازنة بين أمرين يقفان تماماً على طرفي نقيض في غالبية المؤسسات؛ وهما العمل على تحقيق أقصى كفاءة إنتاجية ممكنة في الوقت الحاضر (الصندوق الأول)، وابتكار نموذج جديد لممارسة أنشطة المؤسسة مستقبلاً في الوقت نفسه (الصندوق الثالث).

ويُنحي الصندوق الثالث هذا جانباً العديد من – إن لم يكن كل – المبادئ والنماذج والأساليب التي أُسست عليها الشركة، وحققت لها النجاح، إذ أنه يستلزم مهارات وأساليب وقيادة مختلفة تماماً عن نظيراتها القائمة في الوقت الحاضر بالفعل.
وبينما يشكل تحقيق التوازن بين الصناديق الثلاثة أمراً عسيراً للغاية، يبدو ثانيها مثيراً للاهتمام بشكل خاص، وكذلك صعب التطبيق بوضوح بالنسبة لغالبية الشركات والمؤسسات. فبينما تعمل شركةٌ ما على الحفاظ على أنشطتها الحالية قائمة ومستمرة (فهي أنشطة تُدِرُ أرباحاً على كل حال)، يتعين عليها – إن أرادت اتباع خطى غوفيندراجِن في ما يتعلق بالابتكار والتطوير – أن تنسى في الوقت نفسه العوامل التي أنجحتها في الماضي.
وبحسب البروفيسور الهندي؛ ربما تكون هناك حاجة لنسيان كل ما يتعلق بماضي المؤسسة أياً كان نوعه؛ حتى في ما يتصل بمبادئ أساسية؛ مثل كونها شركة تنتج منتجاتٍ ما، أو أنها توزع هذه المنتجات عبر التعامل مع تجار بعينهم أو من خلال فروع ذات صفات مادية معينة.
ويمتد الأمر إلى حقائق من قبيل كون المؤسسة تتخذ من مدينةٍ أو دولةٍ ما مقراً لها، أو أنها تعلم طبيعة جمهورها المستهلك. ولا تشكل هذه العوامل جزءاً من الاستراتيجية الإدارية الخاصة بأي شركة فحسب، أو تمثل حتى السبب الذي كفل لها النجاح حتى الآن، بل إنها مترسخة بقوة أيضا في الهيكل الخاص بالمؤسسة وأقسامها، ومرتبطة بمسائل مثل؛ منْ يتبع منْ إدارياً، وما هي الأنشطة التي يمكن أن يُعهد بها إلى شركات ومؤسسات أو جهات ثالثة بالاتفاق مع الشركة، وهو ما يُعرف باسم “التعهيد”.
كما ترتبط تلك العوامل بتحديد ماهية الأصول الأكثر أهمية وقيمة للشركة مقارنة بغيرها.
ومع أن هذه الاعتبارات تشكل في نظر العالمين ببواطن الأمور في الشركة الثقافة الخاصة بها؛ فإنها ربما تمثل في الوقت ذاته الكوابح الأكثر خطورة، التي تعوق السير على درب الابتكار والتطوير الفعلييّن.
“نقاط الضعف المستقبلية”
ويرى غوفيندراجِن أنه لا يوجد أكثر فاعلية في ما يتعلق بتثبيط التجديد والتطوير، من وجود مجموعة من القيم والأساليب والممارسات التي عفا عليها الزمن، والتي تفضي لما يشبه توقف الزمن وفرض حالة من الجمود على الشركة.

ولذا يتعلق الصندوق الثاني بنسيان هذه القيم والأساليب، من أجل المضي على طريق التطوير والتحديث، على نحو منبت الصلة تماماً عن ما جرى في هذا الشأن من قبل.
وما من شك في أن أكثر مثال أو فكرة صادمة في هذا الكتاب هي تلك التي تتحدث عن الحاجة لنسيان الماضي “الناجح” للشركة، وهي الفكرة الأكثر منافاة – ربما – للبديهة والتفكير البشري التقليدي.
فهل بوسع المرء القول هنا إن النجاح هو نذيرٌ بفشل الشركة؟ يعبر البروفيسور غوفيندراجِن عن هذا التصور بقوله إن “نقاط الضعف المستقبلية هي جزءٌ لا يتجزأ من نقاط القوة الحالية”.
بل يمكننا المضي إلى شوط أبعد بالقول إنه في عالم مُعرقِل ومضطرب، كذاك الذي نعيش فيه حاليا؛ يمثل أي نجاح كبير بحق تحققه الشركة مُسبِباً لفشلٍ مقبل.
فالنجاح يشكل مُخدراً للمؤسسة، ما يجعلها غير واعية بطبيعة ما يجري في البيئة التي تمارس فيها أنشطتها.
ومن هذا المنطلق، على الشركة نسيان ماضيها حتى يتسنى لها خلق مستقبلها، وأن تستخدم في الوقت نفسه أرباحها المتزايدة، التي تدرها أنشطتها الحالية، لتمويل التغييرات التي تمس الحاجة إليها أكثر من غيرها، وهو ما يبدو بمثابة ممارسة مؤسسيّة للعبة “شد الحبل”، ولكن بلا نهاية.
وهكذا فلا عجب في أن رئيسي سابقاً لم يستطع استيعاب ما الذي يعنيه مفهوم “الابتكار” ذلك.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.