في ركن من أركان العالم حيث تنام حبات البن على وسائد الأسعار المنخفضة في بورصة نيويورك، يستيقظ المستهلك العربي ليجد أن كوب القهوة قد ارتقى مرتبة اجتماعية جديدة، وأصبح يُعامل كما يُعامل الذهب السائل.
شهدت بورصة القهوة العالمية في الأشهر الأخيرة انخفاضًا ملحوظًا في أسعار البن الخام، نتيجة وفرة المحاصيل في البرازيل وفيتنام، وتحسن الظروف المناخية، وتراجع الطلب في بعض الأسواق العالمية. لكن هذه الأخبار لم تجد طريقها إلى جيوب المستهلكين، بل وصلت فقط إلى خزائن التجار.
بين “أرابيكا” و”أراب… يارب!”
في تناقض لا يمكن تفسيره إلا بمنطق “الأسواق الحرة جدًا”، بادرت كثير من المقاهي ومحال القهوة المختصة إلى رفع أسعارها بشكل لافت.
تبريرهم؟ “نحن نقدم لك أجود أنواع البن، مغسولًا بدموع الروّاد، ومحموصًا على لهيب الحنين.” يضيف أحد أصحاب المحامص الفاخرة قائلاً: “نحن لا نبيع قهوة، نحن نبيع تجربة روحية، وكوب التأمل لا يُقدّر بثمن.”
لكن الحقيقة، كما تظهرها الأرقام الصامتة في بورصة السلع، تقول إن القهوة أصبحت أرخص، في وقت بات فيه المستهلك يدفع أكثر.
وهنا تبدأ مسرحية “التضخم الذوقي”، حيث تُباع الأوهام مغلفة بحبات بن، وتُسَوَّق الجودة عبر مقاطع إنستغرامية على أنغام البيانو.
القهوة… وفلسفة الغلاء المتفلسف
في بلدٍ تُحتسب فيه جودة القهوة بعدد كلمات وصفها على القائمة، من “مقطوفة يدويًا من سفوح الأنديز” إلى “مداعبة بخيوط الشمس الإفريقية”، يصبح من الطبيعي أن يرتفع السعر.
فهنا لا تدفع ثمن القهوة، بل ثمن القصة.
أمام هذه المفارقة، يُترك المواطن في حيرة: إن شرب، شرب قهوته مغمّسًا بالغُبن، وإن امتنع، بدأ صباحه على غير المعتاد من دون “لحظة الاسترخاء” .
الضحك… مرّ الطعم كالقهوة
السخرية في هذه القصة ليست في تلاعب الأسواق، بل في تقبلنا لذلك التلاعب بكل رحابة صدر. ن
علم أن السعر العالمي انخفض، ونعلم أن التكاليف تراجعت، لكننا نقنع أنفسنا أن هذا الكوب، بالذات، يستحق أن يكون أغلى لأنه “صُنع بحُب”، كأن الحب يُطحن مع الحبوب.
ويبقى السؤال: هل سنشهد قريبًا بورصة لـ”نوايا التجار” كي نتمكن من فهم المنطق الذي يسير عليه السوق؟ أم سنكتفي برفع الكوب، ورشف الرشفة، والقول: “هيّا، صباح جديد… وسرقة جديدة؟”