الإنسان مدني بطبعه يحتاج إلى غيره كما يحتاج غيره إليه، كما قرر ذلك علماء الاجتماع، ومن حاجته إلى غيره العقود المختلفة التي يُبرمها في أطوار حياته ومختلف أحواله، تترتب عليها حقوق مالية وأدبية واجتماعية، فهو يبيع ويشتري دائماً، وقد يُؤْجِر ويستأجر، ويشارك ويوكل ويتوكل، ويرهن ويؤمن ويستصنع ويصون ويوقف ويوصي ويهب ويُصلح وينكح، وغير ذلك.
لكن أكثر من يخوض في هذه العقود قلما ينتبه لما له وما عليه فيها، فيظنها جرة قلم والسلام، غير مدرك أن وراءها تبعات ومساءلات، إذ يترتب على ذلك صحة وبطلان، ونفاذ وعدمه، وحلال وحرام، ناهيك عن حقوق الآخرين التي بُنيت على المشاحة غالباً، وقلما يسامح أحد في حقه، ولا عتب عليه في ذلك، فإنه مصون النفس والعرض والمال، فلا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه، وقد عُنيت الشريعة الإسلامية بحفظ الحقوق وحمايتها، ليأخذ كل واحد حقه من غير وكْسٍ ولا شطط، فأكبر آية في القرآن الكريم هي في المداينة وتوثيق العقود، وعنيت السبع الطوال من القرآن الكريم بكثير من آيات الأحكام المادية، فلم يبق باب من أبواب فقه المعاملات إلا وقد حَظِي في الإسلام بالعناية الكافية، والناس معنِيون بفقه ذلك، فلا يحل لأحد أن يقدم على باب من أبواب المعاملات حتى يعرف صحيحه من فاسده، وحلاله من حرامه، وإلا ارتطم في الربا كما قال علي رضي الله عنه: «الفقه قبل التجارة، إنه من تَجَر قبل أن يفقه ارتطم في الربا ثم ارتطم»، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: «لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين».
والمسلم متعبد في بيعه وشرائه وعقوده كتعبده في صلاته وصيامه، فإنه يأثم بالعقد المحرم كإثمه بترك الصلاة والصيام، ويثاب على الصحيح والجائز إن حسن قصدُه كما يثاب على طاعاته الأخرى، فشعاره دائماً قوله تعالى: {قُلْ إِن صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَب الْعَالَمِينَ}، ونحن نعيش زماناً قلما يعرف التجار فقههم، أو المتعاملون عقودهم، حتى تحق الحاقة، فيدرك المتعامل أنه وقع في الربا، أو أن عقده كان باطلاً، أو ليس له إلا رأسماله إن كان موجوداً، فيرى نفسه أنه ظُلم، وأن حقه ضاع، والواقع أنه جنى على نفسه بتقصيره في المعرفة، وكان من شأنه أن يتعلم، فإن العقود لها أسس تبنى عليها، وتقسيمات متنوعة، فهناك عقود مسماة، لها ذكر في كتب الفقه، وأخرى غير مسماة حدثت أخيراً اقتضتها الحياة المدنية المتطورة، وهناك عقود معاوضات وأخرى تبرعات، وهناك عقود لازمة، لا سبيل للمرء أن ينفك منها، وأخرى غير لازمة، لكل من العاقدين أن يخرج منها متى شاء، أو لأحدهما دون الآخر، وهناك عقود ضمان، وعقود أمانة، وعقود معاوضة، وعقود تبرع.. إلى غير ذلك من العقود الشرعية أو القانونية، التي قد ينطوي تحت كل قسم منها تفصيلات أُخَر، فيحتاج الإنسان إلى معرفة ما يريد الدخول فيه منها حتى يكون على بينة من أمره، لئلا يقع في محظور، أو يضيع عليه غُنم، أو يقع في غُرم، وهو في غِنى عن ذلك لو كان حريصاً على نفع نفسه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
*نقلا عن الامارات اليوم
المصدر : https://wp.me/p70vFa-1IK