منذ توقيع اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس تصاعدت موجة الاعتقالات في الضفة في صفوف أنصار حماس على نحو فاق المراحل السابقة، الأمر الذي تزامن أيضا مع قيام سلطات الاحتلال باعتقال العشرات ممن خرجوا من سجونها (أعني سجون السلطة)، ما يشير إلى سياسة الباب الدوار، وحجم التعاون الأمني بين الطرفين.
هذا هو حال الوضع في الضفة الغربية، فحماس دفعت ثمن دخول الانتخابات عام 2006، ودفعت ثمن الحسم العسكري، وكلما لاحت بوادر مصالحة تزداد الاعتقالات في صفوفها شراسة؛ ومن الطرفين أيضا، ويبدو أن الأمر سيتكرر هذه المرة.
لا يتوقف الأمر عند حدود الاعتقالات، بل يطال كافة الأنشطة الطلابية والدعوية، ما يشير إلى أن هناك قدرا من الانفصال بين المسار الأمني وبين المسار السياسي.
يذهب البعض في تفسير ذلك إلى القول إن الرئيس الفلسطيني لا يملك سلطة على أجهزة أشرف على تشكيلها الأمريكان، وينسق قادتها يوميا مع المحتلين، ولكن الأمر لا يبدو كذلك. صحيح أنها أجهزة صاغها الجنرال دايتون، وانتقى رجالها، واستبعد منها من لا يصلحون للمهمة (التعاون الأمني) بإحالتهم إلى التقاعد (مصابون بداء الوطنية، وهم لذلك لا يصلحون)، لكن ذلك كله لم يكن خارج سياق البرنامج الذي يؤمن به الرئيس ومن يلتفون حوله ممن تتآمروا على ياسر عرفات وورثوا السلطة والمنظمة وحركة فتح.
على أن تغييرا في عقيدة الأجهزة الأمنية، أو وفقا للتنسيق الأمني لن يكون قرارا عاديا، فهو يعني تحدي الاحتلال، وهو أمر لا يفكر فيه القوم، لأنهم لا يريدون أن يُحاصروا كما حوصر ياسر عرفات، ولا يحلو لهم أن يرددوا “شهيدا شهيدا”، يل يفضلون اللقاءات مع القادة الصهاينة، مع إرسال رسائل الحب والسلام، والتضامن القلبي مع ضحايا اليهود الذين قضوا في “أكبر كارثة في التاريخ البشري”، بحسب الرئيس الفلسطيني نفسه.
من هنا يمكن القول إن من يعتقد أن سياسة الأجهزة الأمنية في الضفة ستتغير بناء على اتفاق المصالحة أو تشكيل حكومة الوحدة الوطنية يبدو غارقا في الوهم، فهذه السلطة وأجهزتها صُممت لخدمة الاحتلال، ولا يمكن التمرد على الهدف الذي أنشئت من أجله، وحين حاول عرفات ذلك قتلوه، وهو ما يعيدنا إلى أصل الداء ممثلا في أوسلو وتصميم سلطته، وخطأ الذين شاركوا في انتخاباتها بمبرر الحفاظ على برنامج المقاومة، مع أننا لا نشك في صدق نواياهم.
ما سيفعله عباس، وسيوافق عليه الصهاينة من الآن وحتى الانتخابات المقبلة (الاعتقالات من طرف الاحتلال ستتواصل لأن ذلك يحد من قدرة حماس الانتخابية إذا أجريت الانتخابات بطبيعة الحال)، ما سيفعله هو تخفيف بعض القيود على الحركة، حتى لو تواصلت الاعتقالات بدعاوى “جنائية” وليست سياسية (يحدث ذلك دائما في الأصل)، والسبب أنه معني بتشجيع حماس على خوض الانتخابات، وسيسهل الاحتلال ذلك دون شك، رغم أن تعطيل الأمر ليس صعبا عليه، والسبب أنه برنامج الانتخابات يخدمه، ليس فقط بتكريسه للسلطة/ الدولة تحت الاحتلال، بدل التلويح بحلها وإلقاء أعبائها الرهيبة على الاحتلال، بل أيضا لأنه يعيد الشرعية لعباس، ويمنحه فرصة التفاوض دون قيود من أحد.
فتح بالتحالف مع قوىً أخرى ستحصل على غالبية (أكثر من النصف) دون شك بنظام القائمة (حصلت حماس بالنظام المذكور على 44 في المئة عام 2006، وتفوقها كان في الدوائر)، وسيُنسخ ذلك في منظمة التحرير بحجة عدم إمكانية إجراء انتخابات في أي من دول الشتات (ربما باستثناء لبنان، حيث وجود فتح قوي أيضا)، وحينها سيدير عباس الظهر للجميع، وسيعود إلى برنامجه التفاوضي مهما طال زمنه، بل سيطالب بسلاح شرعي واحد يعني إلغاء سلاح المقاومة (فوز حماس سيعني تجديد الحصار، وهذا سيف سيكون مسلطا على رقاب الشعب أيضا، بما يلغي النزاهة).
من هنا قلنا ونقول إن برنامج هذه المصالحة عبثي، وليس أصل فكرتها، لأننا نريد مصالحة تخدم قضية الشعب، فيما لا تخدم هذه غير برنامج الرئيس حتى لو استمر في رفض ما يعرضه عليه الاحتلال دون أن يغير شيئا في تعاطيه معه.