لا يزال النظام الذي أنشأه العرب، لإمداد العاصمة الإسبانية مدريد، بالمياه، معمولا به، منذ إنشائه قبل قرون، مع الإشارة إلى إنشاء المسلمين، في بلاد الأندلس، أكثر من نظام لتوصيل المياه، إلا أن أشهر نظامين، جرت دراستهما، هما نظام مدريد، ونظام كريفلينت، قيّض للأول منهما، أن يستمر في العمل إلى عصرنا الحالي.
وبحسب مؤرخ العلوم العربية، الدكتور البريطاني دونالد هيل، والذي جمع في تحصيله العلمي ما بين الهندسة والعلوم، والفلسفة عند العرب، ونال في الأخيرة شهادة الدكتوراه، وفي الأولى البكالوريوس في الهندسة، فإن نظام العاصمة مدريد، المائي، عبر ما سمّاها بتقنية القناة التي أنشأها المسلمون في إسبانيا، لا يزال يعمل لإمداد المدينة بالمياه من منطقة تدعى وادي الرمل، أو ما خطّه باللاتينية Guadarrama
دخول كلمة السدّ العربية في اللغة الاسبانية
وفي إطار تأريخه الدقيق والعلمي لـ”العلوم والهندسة عند العرب” وهو عنوان أحد كتبه التي اطلعت عليها “العربية.نت” فإن شقّ القنوات للري، أو للشرب، فإنه يتطلب علاقة مباشرة مع السدود، من أجل حصر المياه ومنع هدرها إلى البحار أو تخريب ما حولها وما في طريقها في حالة الطوفان، فيشير في هذه النقطة، إلى السدود التي بناها العرب في إسبانيا، في ما وصفه بـ”العصر الذهبي من حكم الأمويين” لإسبانيا، حيث أكد بناء عدد كبير منها.
ويؤكد هيل، كما ورد في بحث له مترجم في المجلد الثالث من موسوعة العلوم العربية، أن العرب لم يتركوا وحسب آثارهم، ببناء السدود، وحسب، في البلاد، بل وتركوا اسمه في اللغة الاسبانية، فيقول: “وتجدر الإشارة، إلى أن الكلمة الإسبانية azud المأخوذة عن الكلمة العربية سدّ، هي أحد المصطلحات الأكثر حداثة الصادرة مباشرة عن اللغة العربية، وتقدم لنا الدليل على التأثير الإسلامي في التكنولوجيا الإسبانية”.
وأرّخ هيل، لجميع مظاهر العلوم والهندسة عن العرب، كالرياضيات والجبر، مسلطاً الضوء على العالم الخوارزمي، ثم العالم المصري “أبو كامل شجاع” الذي عرّفه بأنه، بعد الخوارزمي، قد ترك أثراً هاما في “تطوير الجبر الغربي”. ثم العالم ابن البغدادي، وأبو جعفر الخازن، ثم بدور العرب بنقل علوم الهندسة القديمة والتطوير عليها، مستعملا مصطلح الهندسة الميكانيكية العربية.
مهندسون بارعون
ونظراً لكون هيل، مهندساً عاملا، في الأصل، وحاصلا على دكتوراه في الفلسفة عند العرب، فقد طلب منه، ما عرّفه بـ”مؤرخ التقنية العظيم” لين وايت، أن يقوم بترجمة وشرح ماهية الآلات التي صنعها المخترع العربي ابن الجزري، ففعل، وأضاف عليه اختراعات عربية أخرى. ويوضح أن الجيوش العربية والإسلامية التي دخلت إسبانيا، كان في عدادها “مهندسون بارعون في الأعمال الهيدروليكية” مؤكداً أن هؤلاء هم الذين نقلوا تقنيات الرّي إلى إسبانيا.
أمّا أقدم “سدّ إسلامي” في إسبانيا، بوصف هيل، فهو في قرطبة، مؤكداً أن آثاره لا تزال باقية في المكان. وبحسب خبرته في عالم الهندسة، وكممارس لها، في آن واحد معاً، يؤكد أن العرب طوّروا من تقنيات بناء السدود، في إسبانيا، عبر ما سمّاها صمّامات التحكم بجريان مياه السد، وقنوات التصريف لتخليص قاع السد، من علّة خطيرة صامتة تصاب بها السدود، وهي الطمي أو الوحل. ويقول إن هذا التطوير أفاد إسبانيا، لاحقاً، في بناء سدودها.
إضافات عربية بتقنيات بناء السدود
ويلفت هيل، إلى أن بعض السدود التي بناها العرب في إسبانيا، ربما تبدو صغيرة، الآن، وغير مثيرة للإعجاب في تاريخ تقنية بناء السدود، لكنها -يؤكد هيل- أثبتت أنها عملية للغاية في ضوء الهدف المنشود منها، فقد واصلت توفير احتياجات الري، في منطقة كبالنسيا، حتى عصرنا الحاضر، قائلاً إن في إسبانيا عددا من السدود، توضح مهارة المسلمين في الأساليب الإنشائية، ويعطي مثالاً بسد نهر سيجورا، ثم سدّ نهر توريا، وغيرهما، ليعود ويؤكد أن إدخال بوابات التحكم، وقنوات تصريف الطمي، لا يمكن وصفهما إلا بـ”إبداعات إسلامية”.
وترك بناء السدود التي بناها العرب، وشق قنوات المياه، أثراً كبيرا في ما يوصف بالازدهار الزراعي، في إسبانيا، بحسب المصدر السابق، مؤكداً أن أوروبا لم تكن تعرف ذلك من قبل. ويظهر من خلال مؤلفاته، معرفته الواسعة بتاريخ بناء السدود وشق قنوات المياه، في المنطقة العربية، بصفة خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط، عامة. فضلا من إلمامه بتاريخ الهندسة والعلوم، في التاريخ الإنساني.
ويشار إلى أن دونالد هيل، ولد في العاصمة البريطانية لندن، عام 1922 وتوفي سنة 1994، وأصدر عدة كتب تؤرخ لتاريخ العلوم عن العرب، منها “التقنية الإسلامية” و”الهندسة الميكانيكية العربية” و”الساعات المائية العربية” و”تراث الكيمياء العربية” و”الهندسة المدنية العربية”.