مجلة مال واعمال

طريح الفراش في مستشفى في السويد

-


أمضيت نحو أسبوع في مستشفى في السويد. كان أسبوعا مريرا استطاع الأطباء فيه رفع المرارة التي سببت لي ألما عظيما. بالطبع هذا الوصف ذاتي. لا يجوز مقارنة الألم الذي انتابني بما يصيب مثلا أطفالا يعانون من المجاعة أو شهيدا سقط أو جريحا أصيب وهو يدافع عن المقدسات والأرض في فلسطين. هؤلاء لهم جزاؤهم عند ربهم.

وعلى الرغم من أن فترة نقاهتي لم تنته لكنني ارتأيت ألا أحرم قرائي الكرام من عمود جمعتهم، أو بالأحرى ألا أحرم نفسي من متعة الكتابة إليهم. واليوم أقارب وأقارن بين السويد ودول الخليج العربية في مجال الخدمات الصحية.

وأنا أقوم بذلك ليس هدفي الدعاية لهذا البلد. هدفي الأول والأخير هو تقديم وصف موجز لنموذج متطور من الحياة يرتقي في كثير من مواصفاته لما ينشده غالبية العرب والمسلمين مسترشدين بتعاليم دينهم الحنيف، وأخص بالذكر منهم القاطنين في بلد الحرمين.

إنني ما زلت أرى في التجربة السويدية نموذجا يستحق الدراسة، لا بل التبني في كثير من مناحيه في الدول العربية الغنية ولا سيما الخليجية.

البون شاسع والهوة عميقة جدا ولكن متطلبات إقامة نظام صحي قريب أو شبيه بما لدى السويد ليست صعبة المنال، لما تملكه هذه الدول من إمكانات مالية هائلة وطاقات بشرية.

الخدمات الصحية في السويد مجانية برمتها. وهي خدمات عامة أي تقدمها الدولة وليس هناك خدمات خاصة – عيادات أو مستشفيات يملكها أفراد أو مؤسسات.

شيء أذهلني وهو كيف استطاع هذا البلد أن يوطن الطب والصحة وكل الخدمات المتعلقة بهما رغم ارتفاع مستوى المعيشة والخدمة. أي مستشفى في السويد لا يمكن مقارنته بأرقى مستشفى في إمارة دبي مثلا من حيث البنى التحتية والأجهزة والمعدات.

المستشفيات في دول الخليج العربية تقوم شركات أجنبية ببناء أغلبيتها، وكادرها ولا سيما طبقة التمريض، أغلبيته من الأجانب.

السويد تبني مستشفياتها وكادر هذه المستشفيات برمته وطني. الطبيب والممرض والممرضة والفراش والمنظف كلهم سويديون وكلهم سعداء بما يقومون به من عمل.

تنفق السويد التي يبلغ عدد سكانها تسعة ملايين نحو 10 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي (أكثر من 40 مليار دولار) على الصحة العامة عدا طبابة وصحة الأسنان.

وإن أردت أن تتحقق من الحديث الشريف أن “الناس سواسية كأسنان المشط” فلا عليك إلا أن تركز قليلا على الخدمات الصحية العامة في هذا البلد. الكل من الملك والأمراء والأميرات ورئيس الوزراء ووزرائه والأغنياء والفقراء يلقون العلاج نفسه وفي المكان نفسه ومن لدن المختصين أنفسهم دون تمييز على الإطلاق. والغني إن رفض العلاج في السويد بإمكانه الاستعانة بأطباء وعيادات خارجية – لكن ليس في السويد لأنها غير متوافرة أساسا بل في الخارج، ولن يلقى المستوى المتقدم من الخدمة التي تقدمها منشآت الصحة العامة في السويد.

رئيس الوزراء السابق يوران برشون انتظر دوره كأي شخص عادي لإجراء عملية جراحية في مستشفى يرتاده العامل البسيط والطالب والأجنبي المقيم، ولم تشفع له توسلاته وحججه لتقديم الموعد لأن عدم إجراء العملية فورا يعرقل أعماله كرئيس وزراء.

وهكذا برز في السويد نظام صحي وطني 100 في المائة ومعه صناعة دوائية وطنية فائقة التطور، وصار متوسط العمر 83.5 للنساء و79.5 للرجال. وظهرت مدارس وكليات تمريض – منها واحدة في جامعتنا – تحتل مراتب راقية في التسلسل العالمي.

واليوم تبز السويد الدنيا في تربية وتعليم القابلات. ولا قابلات مثل القابلات السويديات. هذا الاهتمام الكبير بشؤون الولادات والاهتمام الذي لا نظير له لتدريب وتعليم القابلات خفض الوفيات إلى أقل من ستة لكل ألف ولادة. وبالنسبة إلى الأمهات تراجعت الوفيات إلى أقل من واحد لكل 100 ألف.

إنها تجربة جديرة بالدارسة، ولا سيما جانب توطين الطب والصحة العامة والمساواة في تقديمهما لأفراد المجتمع.

*نقلا عن الاقتصادية