قبيل استعراض أبرز ما جاء في كتاب الدكتور إرنست فولف أستاذ الفلسفة بجامعة بريتوريا بجنوب أفريقيا الموسوم بـ “صندوق النقد الدولي.. قوة عظمى في الساحة العالمية”، والصادر عام 2014، تنبغي الإشارة إلى كون الكتاب موسوعة معلوماتية ومعرفية مذهلة عن صندوق النقد الدولي منذ نشأته، والحقيقة أن فعل القراءة للكتاب كان ممتعا لأن مؤلفه استطاع أن يعالج هوس القارئ المصري على وجه الاختصاص وشغفه الأيام الراهنة بتقصي أكبر قدر من المعلومات المتصلة بطبيعة صندوق النقد الدولي وطبيعة عمله وماهيته منذ بزوغ الفكرة بمزيد من الترحال والسفر عبر قارات العالم والتجول بقدر هائل وشيق من المعلومات التي تجعل القارئ العادي متخصصا في عالم المال والاقتصاد بوجه عام.
ولا شك أن منذ الإعلان عن اقتراض مصر من صندوق النقد الدولي ووسائط الإعلام المتسارعة زمنيا والمتصارعة فكريا في استعار ومساجلات بينية لم تنته حتى لحيظات الكتابة، وبين توافق الإعلام الرسمي مع توجهات حكومة المهندس شريف إسماعيل في ضرورة إتمام إجراءات القرض، وبين نزعات الرفض التي تتبناها بعض الوسائط الإعلامية غير الرسمية للاقتراض من صندوق النقد الدولي يقف المواطن المصري الذي ظل فريسة طيلة ثلاثين عاما هي فترة حكم الرئيس المخلوع مبارك لا يكترث ولا يعتني بأية إحداثيات تتعلق بالشأن الاقتصادي، اللهم سوى اهتمامه اليومي بتوفير نفقات معيشته.
وبعد ذلك جاءت سنة الجماعة التي لا يمكن الحكم عليها ثقافيا أو سياسيا، كون السنة والجماعة كلتاهما عرضا دراميا أشبه بالفانتازيا الساخرة التي لم تعد بنفع ثقافي على المواطن الاعتيادي. أما النخبة فكانت في هوس محموم بتتبع أخبار الجماعة ومندوبها بالرئاسة الرئيس المعزول محمد مرسي أكثر من اهتمامها الضروري بالشئون الاقتصادية وعمليات التنمية التي لم تتجاوز حدود ثمة وريقات صغيرة الحجم كانت عبارة عن مشروع وهمي للنهضة.
لكن هذا اللغظ المستدام إزاء المباحثات التي أجريت وانتهت بالفعل بين الجانبين المصري وصندوق النقد الدولي كان باعثا ضروريا ودافعا ومتطلبا إيجابيا للتفتيش عن طرح نظري وتطبيقي يفيد القارئ الذي يريد خصوصية المعرفة، بحثا عن توصيف دقيق لطبيعة عمل صندوق النقد الدولي بعيدا عن تأويلات السادة المحللين الاقتصاديين الذين زادوا مصر هما فوق هم، وضاعفوا أعباءها النفسية بمزيد من الطروحات النظرية العقيمة التي لم تتجاوز تخوم الجنيه والدولار والدعم والتنمية المستدامة، وجميعها تستخدمها ابنتي الصغيرة التي تجاوزت بالفعل هذا العام أعوامها الثلاثة نظرا لجلوسها الطويل أمام شاشات التلفاز التي تستضيف عشرات الوجوه المكرورة والمعتادة من رجال الاقتصاد وسوق المال.
المهم، في خلال رحلة شغف البحث عن معرفة كاملة تشارف اليقين عن صندوق النقد الدولي بعيدة عن محرك البحث الشهير غوغل وبعيدا عن اللجوء إلى موسوعة ويكيبيديا الإليكترونية التي تجمع الغث بالثمين وتربط العاطل بالباطل وتخلط الحابل بالنابل، كان البديل الطبيعي والبدهي هو الكتاب بوصفه المصدر الأصيل للمعرفة.
فكان كتاب أرنست فولف المرجع الأصيل لتأصيل طبيعة صندوق النقد الدولي وبيان مهامه وبعض مطامحه المعلنة والمستترة من أجل الوصول إلى توصيف دقيق لهذا التعاون بين مصر والصندوق.
وصندوق النقد الدولي يزعم في توصيف رؤيته ورسالته إلى العالم بأنه يساعد الدول النامية ـ ولا أعرف أو أفطن إلى متى ستظل هذه الدول نامية؟ ومتى ستكبر بالفعل وتصبح راشدة يحق لها تقرير مصائرها؟ في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية على صياغة مناهج تفضي إلى تنمية مستدامة ورخاء متزايد، والحقيقة التي تخالف الزعم والرؤية أن ممارسات الصندوق في دول العالم الثالث على يقين التحديد تعيد إلى الأذهان تاريخ عصور الهيمنة الكولونيالية.
ورغم ذلك يظل الصندوق هو الملجأ الآمن والملاذ الأخير والرهان النهائي لكثير من الدول للتزود بالسيولة النقدية من أجل استكمال خطط البناء والإعمار الاقتصادي لها، وبالرغم من أننا نسمع ونشاهد عبر الفضائيات التي تزاحمنا الهواء وحق التنفس والخلود للراحة ولو لسويعات قلائل أن الصندوق لا يتدخل في السياسات الاقتصادية أو الإدارية للدول الساعية إلى الاقتراض، يفاجئنا إرنست فولف الألماني الأصل بأن صندوق النقد الدولي يسعى منذ بداية فكرته التأسيسية في مؤتمر بريتون وودز إلى تعزيز الهيمنة الأميركية على اقتصاديات دول الشعوب النامية، بل والمضي بشكل متسارع في عملية خصخصة مشروعات عامة خدمية كالمستشفيات والمدارس والجامعات الحكومية، وأيضا بعض الموانئ البحرية والجوية والسكك الحديدية وشركات الطيران الوطنية في الدول التي اقترضت من الصندوق.
ومن غرائب سياسات الصندوق الذي استهدف دول أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، أنه أبدى اهتماما متزايدا منذ عام 2007 صوب شمال أوروبا عقب اندلاع الأزمة المالية، لكن منذ اندلاع واشتعال أزمة اليورو في عام 2009 أخذ يركز نظره واهتمامه تجاه الجنوب الأوروبي.
ولأنني بحكم عملي الأكاديمي أعرف دور الأسئلة في تحفيز الأذهان. فأنا أرى أن الحكمة اليابانية التي تقول “يمكنك أن تجد سؤالا جديدا لكل إجابة”. فالأولى من الإعلام المصري الذي يبدي اهتماما أكبر إلى مسلسل الأسطورة وكيف استطاعت الممثلة يسرا أن تنتقم من صديقاتها في مسلسلها “فوق مستوى الشبهات”، كذلك برامج التحليل الرياضي البليدة والخائبة التي تقوم بتفتيت أحداث مباراة باهتة، أن يهتم هذا الإعلام بتقديم صورة مثالية عن صندوق النقد الدولي للمواطن الذي من حقه أن يعرف. فالمعرفة علاج الخوف كما قال رالف والدو إيمرسون، أو كما ذكر أفلاطون في مدينته الفاضلة بأن المعرفة غذاء الروح. لكن هذا الإعلام لم يفعل شيئا سوى التأكيد بضرورة التسارع في إجراءات القرض.
يخبرنا إرنست فولف في كتابه الماتع بأن وظيفة الصندوق الأساسية تكمن في العمل على استقرار النظام المالي، وفي مساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشكلات اقتصادية مزمنة وليست طارئة، لكن يحرص المؤلف دوما على مفاجأة القارئ بإضافة وقائع ومعلومات بين السطور فيضيف على توصيف وظيفة الصندوق بأن تدخلات صندوق النقد الدولي تبدو في الواقع أشبه بغزوات جيوش متحاربة.
وبحسب اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي الذي ترأسه لأول مرة البلجيكي كميل جوت في عام 1946، تكمن أهداف الصندوق في تشجيع التعاون الدولي في ميدان السياسة النقدية، وتيسير التوسع والنمو في التجارة الخارجية، والعمل على تحقيق استقرار في أسعار الصرف، والمساعدة على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف. ورغم هذه الأهداف التي تدغدغ أسماع المواطنين اللاهثين وراء حياة تتسم بالرفاهية والرخاء الاقتصادي إلا أن عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ الازدهار الاقتصادي وصاحبه شروع صندوق النقد الدولي في نصب حبائله وهو ما حدث تحديدا مع الأرجنتين 1956 حيث أسهم الصندوق في اشتعال أكبر إفلاس حكومي عرفه التاريخ، وتشيلي في سبتمبر 1973 بعد الانقلاب العسكري الذي أنهى حكومة الرئيس الاشتراكي سالفادور أليندي بمساعدة وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية وتسليم زمام السلطة إلى أوجستو بينوشيه. وكانت النتيجة هي إلغاء كل عمليات التأميم المنفذة من قبل سالفادور أليندي.
ويستعرض المؤلف في كتابه سياسات صندوق النقد الدولي في بعض البلدان الأوروبية البعيدة عن دول العالم الثالث مثل أيرلندا التي شهدت سنوات طويلة من الرخاء والاستقرار الاقتصادي إلا أنه في عام 2007 تعاقدت الحكومة الأيرلندية على قرض جديد من الصندوق وفي نفس توقيت الاتفاق على القرض انفجرت فقاعة المضاربة في سوق المال وسوق العقارات وسجل مستوى البطالة ارتفاعا كبيرا وعجزت مشاريع متوسطة الحجم عن خدمة ما بذمتها من ديون.
ونتيجة القرض الأيرلندي من الصندوق فرض الصندوق عدة شروط قهرية مثل إلغاء 24750 فرصة عمل في القطاع العام أي ما يعادل 8 في المائة من كل ما في هذا القطاع من فرص عمل، وخفض رواتب موظفي الدولة الجدد بنسبة تبلغ 10 في المائة، وتخفيض المدفوعات التحويلية المخصصة للأسر كثيرة الأطفال، هذا الأمر الذي يجعلني وغيري من المهمومين بأمر الوطن العظيم الذي بدأ بالفعل في تحقيق نهضته الاقتصادية أن يعي لطبيعة سياسات هذا الصندوق وممارساته في كثير من البلدان.
وإذا كانت هناك حركات عالمية احتجاجية في إسبانيا والبرتغال واليونان منذ عام 2011 أي وقت ثورات الربيع العربي ضد سياسات صندوق النقد الدولي وممارساته ورفع لافتات احتجاجية مفادها “ليذهب صندوق النقد الدولي إلى الجحيم”، و”لتسقط الترويكا”، فإن هذه الإحداثيات تجعلنا نقدم لمحة سريعة وبسيطة عن طبيعة عمل الصندوق، مهتمين في المقام الأول إلى توجيه الحكومة المصرية إلى مراعاة الدقة والاحتياط في التعامل مع الصندوق.
هذا الأمر أيضا يجعلنا نؤكد على الحركة الاقتصادية النشطة المتمثلة في المشروعات الاقتصادية التي قام بتدشينها الرئيس الوطني عبدالفتاح السيسي والتي تتطلب متابعة مستدامة من الحكومة بهدف استغلالها استغلالا رشيدا، ورغم أن الحكومة المصرية بالفعل تتضمن قامات اقتصادية قامت بالتفاوض الأولي مع إدارة الصندوق إلا أن عليها مراجعة السياسات السابقة للصندوق في بعض البلدان التي تأرجحت ايامها الاقتصادية.