في الكويت، لا في غيرها، إرضاء الناس غاية تدرك. والحكومة لعبتها «صح» هذه المرة. لم تنتظر صراخ النواب كما العادة لتقاوم ثم ترضخ لمطالبهم، فتعطيهم ورقة يظهروا بها بمظهر الأبطال في الشارع. قالت لنفسها إذا كان لا بد من «شخطة القلم»، فليكن الأمر «بيدي لا بيد عمرو».
دبّرت الحكومة الأمر وحدها وعقدت «احتفالية» لتقديم «الأعطية» على شاشة التلفزيون الرسمي، وختم المذيع «المهرجان» بالتمني على المواطنين التوقف عن الإضرابات والاعتصامات والمطالبات بالكوادر.
ليس مهماً أن الرد جاء بعد ست ساعات فقط، بإضراب شلّ المنافذ الجمركية. مبدأ «خذ وطالب» معتاد في الكويت.
الخطير في أمر الزيادة أنها تأتي قبل أن تضع الحكومة برنامج عملها، وقبل أن تحيل موازنة العام المقبل إلى مجلس الأمة، وقبل أن تقرر ما إذا كانت ستضع تقرير اللجنة الاستشارية لمتابعة التطورات الاقتصادية التي شكّلها سمو الأمير، على الطاولة، أم ستنقله إلى متحف الشمع الأحمر، حيث يتفرّج المعجبون على موسوعة تقارير، تضم «الأعمال الكاملة» عن الاقتصاد الكويتي لكل من البنك الدولي وطوني بلير و«ماكينزي» و«نصائح» غرفة التجارة.
في الدول التي تحترم جيوب مواطنيها وخزينتهم العامة، لا يمكن لـ «شخطة قلم» أن تقرر رفع الحد الأدنى للأجور، أو رفع مستويات الرواتب في القطاع العام من دون قياس تأثير ذلك على المؤشرات الاقتصادية في المديين البعيد والقصير، مثل التضخم والاستثمار ونمو الناتج المحلي وتنافسية قطاع الأعمال وسوق العمل وقدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل جديدة والمالية العامة.
لا يمكن عقلاً أن تكون الحكومة قد حسبت عواقب قرارها على هذه المؤشرات، ليس فقط لأن الوقت منذ تشكيلها لا يكفي لذلك، بل أيضاً لأن كل ما لدى الحكومة من دراسات في «متحف الشمع الأحمر» لا يشجعها على ذلك، بل يدق أجراساً مزعجة. مثلاً، يقول تقرير اللجنة الاستشارية الاقتصادية إن الكويت ستكون بحاجة إلى ارتفاع سعر النفط إلى 257 دولاراً في العام 2030 لتحقق تعادلاً في الموازنة إذا استمرت المصروفات الحكومية بالنمو بالوتيرة الراهنة.
لم يخب ظن من اعتقدوا أن هذا الإنذار لن يغيّر شيئاً، لأن في البلاد فكرةً واحدةً تسيطر على مجلس الأمة، مهما اختلفت الأسماء فيه، عن كيفية رفع مستوى المعيشة لمن هم في وسط الهرم الاجتماعي وما دون.
هناك دائماً اعتقاد بأن زيادة الرواتب هي السبيل الأفضل لتوزيع الثروة على من لم ينالوا نصيبهم الواسع من الدنيا. وتلك فكرة، فضلاَ عن كونها خاطئة، فإنها غير قابلة للاستمرار.
الموظفون في الحكومة لا يساهمون كثيراً في الناتج المحلي إلا من جهة الاستهلاك المستند كلياً إلى تسييل ثروة غير متجددة. أما الدورة الاقتصادية فتنشأ وتكبر وتتوسع بعمالة وافدة لها دينامية مختلفة، من حيث التكلفة وثقافة الإنتاج والثواب والعقاب. ولذلك فإن أي نموٍ للاقتصاد الحقيقي سيعمّق بالضرورة الاختلال الهيكلي على مستوى الديموغرافيا وسوق العمل، لأنه لن يقوم إلا على حساب استقطاب المزيد من العمالة الوافدة إلى الكويت. ومن ثم تزداد الفجوة اتساعاً بين سوق عمل بدينامية حقيقية في القطاع الخاص، وسوق عمل بدينامية مصطنعة في القطاع العام، وهذا ما يوسّع الهوة بين راتب المواطن وراتب المقيم، فيصبح اجتذاب المواطن إلى القطاع الخاص أصعب.
لم تقدم الحكومات المتعاقبة أي مقترح جديًّ لكسر هذه الحلقة المفرغة المستفحلة منذ عقود. وحتى خطة التنمية الحكومية حين تحدثت في الأمر لم تقدم إلا أهدافاً منفصلة عن الواقع، لم يتحقق منها شيء بعد سنتين على اعتمادها.
هناك نموذج بديل في النرويج، الدولة النفطية الوحيدة في شمال أوروبا. هناك يزيد دخل الفرد عن مثيله في الكويت، مع أن الدولة لا تملك من النفط ما تملكه الكويت، ولا تغدق الرواتب من دون مقابل كما تغدق الكويت.
كانت اللجنة الاستشارية الاقتصادية الفرصة الأخيرة لاعتناق فكر بديل، تحل فيه الدورة الاقتصادية مكان الدولة كمموّل لحاجات الأفراد ورفاهيتهم، خصوصاً وأن تشكيلتها كانت توفّر نصاباً مكتملاً لمختلف الأطياف في المجتمع.
يئست اللجنة مبكراً حين ترافق عملها مع فورة الكوادر، لكنها قدمت تقريرها من منطلق «قل كلمتك وامش». ثم دق محافظ بنك الكويت المركزي المستقيل الشيخ سالم عبد العزيز الصباح آخر أجراس الإنذار، حين علم بحجم المصروفات في مشروع الموازنة، فغضب ورفع صوته الجهوري، قبل أن يعود إلى منزله ويكتب استقالته بهدوء، لكنه لم يسمع الكثير من الأسف لرحيله.
قد يكون الشيخ سالم تأكد الآن أنه اتخذ القرار الصحيح، أقله لأن استقالته لم تدفع أحداً إلى الاهتمام بدوافعها، بل اشتد سباق الإنفاق من دون قياس للعواقب، فكيف بالحال لو أنه بقي!
ما تعلنه الحكومة عبر زيادة الرواتب بـ «شخطة قلم» أن قواعد اللعبة لم تتغير. بل إن الحكومة أجادت اللعب وتصرفت مع النواب على قاعدة «ألا لا يجهلن أحد علينا.. فنجهل فوق جهل الجاهلينَا
منقول من جريدة “الراي” الكويتية