دخلت روسيا بقوة على خط السجال الأوروبي المتصاعد في شأن تمديد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ ربيع عام 2014 على خلفية ضم القرم ودورها في أحداث شرقي أوكرانيا. وأعلن رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف أن موسكو تعتزم أن تمدد حتى نهاية العام المقبل، الحظر الغذائي الذي أقرته منذ آب (أغسطس) 2014، على استيراد معظم المنتجات الغذائية من الدول الغربية التي تشارك في العقوبات.
ويأتي الإعلان الروسي في وقت يستعد الاتحاد الأوروبي لبحث تمديد عقوباته بحق موسكو. ويُنتظر أن يبحث قادة أوروبا في قمتهم المقبلة نهاية الشهر الجاري، احتمال تمديد عقوباتها على موسكو والتي تشمل المصارف وقطاعات الدفاع والطاقة وينتهي العمل بها الشهر المقبل. وحتى الآن، مددت هذه التدابير كل ستة أشهر.
ويسود انقسام واضح حول مصير العقوبات التي ربط الأوروبيون رفعها بتنفيذ اتفاقات مينسك التي أبرمت بوساطة فرنسية وألمانية لوقف القتال في شرق أوكرانيا. ومنذ أيام اتفق قادة «مجموعة السبع» على تمديد العقوبات على روسيا، وعلى هامش القمة قالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إن من المبكر الحديث عن رفعها. وتعارض بريطانيا والسويد وبولندا، وبلدان البلطيق بشدة رفع العقوبات. وفي المقابل دعا قادة إيطاليا، واليونان وقبرص وهنغاريا وبلغاريا في أوقات سابقة إلى رفعها.
وتتوقع مصادر دبلوماسية أوروبية أن تتوصل الأطراف إلى حلول وسط تقضي بتمديد العقوبات لفترة أقل زمنياً بانتظار تنفيذ اتفاقات مينسك.
وتستورد روسيا منتجات زراعية وغذائية بنحو 11 بليون يورو من الاتحاد الأوروبي، وبسبب الرد الروسي على العقوبات الغربية تراجعت الصادرات الأوروبية إليها بنحو 20 في المئة. وتشير دراسات إلى أن آثار العقوبات والرد الروسي تسببت في رفع نسبة البطالة في أوروبا بنحو 1 في المئة وتراجع الناتج المحلي بنحو 0.8 في المئة.
تاريخياً، لم يؤثر تقلب العلاقات السياسية بين روسيا والاتحاد الأوروبي كثيراً في تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما. وواضح أن نظرة الطرفين البراغماتية تنطلق من وقائع الجغرافيا، إضافة إلى الحاجة المتبادلة على المدى القصير، على الأقل، للمحافظة على مستوى معين يضمن لأوروبا الحصول على النفط والغاز الطبيعي الروسيين، والأخشاب والمعادن وغيرها من المواد اللازمة للصناعة، وبالطبع استمرار تسويق بضائعها. فيما تحتاج روسيا إلى التقنيات العالية والآلات ورأس المال الأوروبي لتطوير اقتصادها والتخلص من الاعتماد على النفط والخامات.
ومع أن العلاقات الاقتصادية والتجارية مهمة للجانبين، فإن هيكل العلاقات التجارية الروسية أقل تنوعاً وأكثر اعتماداً على الاتحاد الأوروبي. وتاريخياً تستأثر أوروبا بنحو نصف حجم تجارة روسيا الخارجية. وفي المقابل فإن حجم التجارة مع روسيا لا يتجاوز 12 في المئة من تجارة أوروبا الدولية. وأظهرت تجربة السنوات الماضية أن توجه موسكو شرقاً لم يساهم كثيراً في زيادة حصة الصين في تجارة روسيا الخارجية، بل سجلت تراجعاً في العام الماضي. فوفقاً للبيانات الرسمية لا يتجاوز حجم التجارة مع الصين خُمس حجم تجارة روسيا مع الاتحاد الأوروبي.
النفط والغاز مقابل الآلات
وتطغى معادلة الطاقة في مقابل الآلات والماكينات على علاقات الطرفين. فروسيا تصدر ما بين 85 و90 في المئة من إنتاجها من النفط والغاز الطبيعي إلى أوروبا، وهو يعادل ما بين 30 و35 في المئة من واردات الطاقة الأوروبية. وتستورد روسيا نحو 65 في المئة من الماكينات والآلات من الاتحاد الأوروبي، الذي يعتمد على روسيا في مجال الطاقة، ولكن اعتماد الأخيرة على الدخل من صادرات النفط والغاز حيوي أيضاً لاقتصادها، وحتى للاستقرار السياسي والاجتماعي، فصادرات الطاقة تزود الخزينة الروسية بنحو ثلثي إيراداتها، وتدر سنوياً نحو 160 بليون دولار أو نحو 13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الروسي.
ومع تعاقب جولات حرب الغاز بدأت أوروبا البحث عن مصادر أخرى للطاقة، كما أن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة أدت إلى تراجع النمو في الاتحاد الأوروبي وبالتالي تراجع الطلب على النفط والغاز. وعام 2014، هوى حجم صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا إلى مستوى عام 1995، ولم يؤثر ارتفاع الطلب بنحو 7 في المئة في 2015 كثيراً في المنحى التنازلي العام. ولكن اعتماد شركات الطاقة في روسيا على الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي إرتفع بسبب التراجع الكبير في الاستهلاك المحلي.
ومازال الاتحاد الأوروبي من أكثر المناطق استهلاكاً للنفط على رغم تراجع الطلب باستمرار منذ العام 2005. وتستهلك أوروبا نحو 12.5 مليون برميل يومياً، ويتوقع الخبراء أن يتواصل تراجع الطلب في السنوات العشر المقبلة بنحو نصف في المئة سنوياً. ويعتمد الاتحاد الأوروبي على الاستيراد لتغطية 83 في المئة تقريباً من حاجاته النفطية، ويستورد الاتحاد نحو 30 في المئة من هذه الكمية من روسيا. في المقابل، فإن صادرات النفط الروسية إلى أوروبا تشكل 75 في المئة من حجم صادرات النفط الروسي. ويصدر معظمها عبر شبكات أنابيب بنيت في الحقبة السوفياتية.
وتشتري روسيا معدات من الاتحاد الأوروبي تتجاوز قيمتها 50 بليون يورو ثلثها من السيارات والشاحنات. وتكشف البيانات أن روسيا تستورد سنوياً ما قيمته أربعة بلايين يورو من الطائرات المدنية والقطارات ومحركاتها. كما تعتمد كثيراً على أوروبا في مجال تقنيات الاتصالات والتكنولوجيا المتقدمة.
وتعد أوروبا من أكبر المستثمرين في الاقتصاد الروسي، وتصل حصة رؤوس الأموال الأوروبية إلى 80 في المئة من حجم الاستثمارات الخارجية هناك. كما تعد المصارف الأوروبية من أكبر المقرضين لنظيراتها الروسية والشركات والمؤسسات المالية.
معادلات جديدة
ويضغط تراجع الطلب على النفط في أوروبا، وبرنامج الاتحاد الأوروبي لرفع كفاءة الاستفادة من الطاقة، وزيادة الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، إضافة إلى المنافسة من قبل الولايات المتحدة وبلدان الشرق الأوسط، على حجم الصادرات الروسية. ومن جهة أخرى، فإن تراجع حجم الاستثمارات في القطاع النفطي، والحظر المفروض على التقنيات اللازمة لتطوير الحقول الصعبة، سيؤدي إلى تراجع إنتاج النفط في روسيا بدءاً من عام 2018، وبالتالي تراجع كميات الصادرات وعدم قدرة روسيا على تزويد أوروبا بالكمية الحالية ذاتها.
وفي مجال الغاز الطبيعي، فإن أوروبا تسعى جدياً إلى تنويع مصادر إمداداتها من آسيا الوسطى وشمال أفريقيا والولايات المتحدة وحتى إيران، ما يشكل ضغوطاً إضافية على الصادرات الروسية. ويبدو أن معادلة النفط والغاز في مقابل الآلات لن تستمر طويلاً، فالجانب الأوروبي بدأ بناء مصانع تكرير جديدة توافق مواصفات نوعيات النفط المختلفة. وربما بات لزاماً على روسيا إيجاد مواد أخرى للتصدير للمحافظة على طبيعة الميزان التجاري. ومن الواضح أن علاقات روسيا والاتحاد الأوروبي تتجه إلى تغير جذري في السياسة والاقتصاد سواء رفعت العقوبات أو مددت.