فشلت كل المحاولات الكثيفة والقائمة حالياً لإقناع الرأي العام الأوروبي والألماني خصوصاً، بإيجابيات مشروع اتفاق التجارة عبر الأطلسي. وأبدت غالبية كبيرة فيه أخيراً وتكراراً رفضها له، خوفاً من سلبياته على المصالح الاقتصادية الألمانية وتحديداً من فرض معايير أميركية في قضايا الغذاء والبيئة مرفوضة أوروبياً. يُضاف إلى ذلك غموض طرق التحكيم في مسائل النزاعات والخلافات، التي لا تزال تميل إلى جانب الشركات الأميركية.
حتى الزيارة الوداعية التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما لأوروبا في نيسان (إبريل) الماضي التي شملت بريطانيا وألمانيا، إضافة إلى عقده اجتماعاً مع خمسة رؤساء دول وحكومات أوروبية، لم تؤد في جزء منها إلى إقناع الألمان والأوروبيين باتفاق التجارة المعروف باسم «تيتيب». إذ لا يزال هذا الاتفاق موضع أخذ ورد بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وشدد أوباما عبثاً على مزايا الاتفاق التي اعتبرها «أحد أفضل السبل لتعزيز النمو، واستحداث وظائف وفرص عمل في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي».
وعشية زيارته تظاهر نحو 90 ألف شخص في ألمانيا احتجاجاً على مشروع الاتفاق. ووصفته منظمات غير حكومية ونقابات عمالية أخيراً، بأنه «إهانة حقيقية للمجتمع الأهلي وتهديد للديموقراطية، ويعرّض المعايير الاجتماعية والبيئية للخطر، ويتناقض كذلك مع المصالح الأميركية – الأوروبية».
وواضح أن الحكومة الألمانية منقسمة حول الموضوع، إذ في وقت تؤيد المستشارة الألمانية (من الحزب الديموقراطي – المسيحي) الإسراع في إقرار المشروع حتى نهاية العام الحالي، معتبرة الاتفاق «مثابة فرصة لأوروبا ومساعدة ضخمة لها»، يعارضه نائبها وزير الاقتصاد والطاقة زيغمار غابرييل (وهو رئيس الحزب الاشتراكي المتحالف معها في الحكومة)، لافتاً إلى أن الأميركيين «لا يريدون الكشف عن عروضهم العامة أمام الشركات الأوروبية».
واعتبر أن ذلك «يتناقض كلياً مع مبدأ التبادل الحر». وقال «في حال أصرّ الأميركيون على هذا الموقف، لسنا في حاجة إلى معاهدة للتبادل الحر، وهي ستفشل». وإذ شدد على رفضه موقف «اشتروا ما يُصنع في أميركا»، أعلن عدم توقيع اتفاق «ينصّ على محكمة تحكيم خاصة» تخاف منها الشركات الألمانية الصغيرة والمتوسطة، الأكثر معارضة للاتفاق التجاري بصيغته الحالية على العكس من الشركات الكبيرة.
وفي كل الأحوال لم يعد أحد من الجانبين الأوروبي والأميركي يتوقع المصادقة على الاتفاق في عهد الرئيس أوباما الذي سينتهي مطلع العام المقبل. وعُقدت أخيراً في نيويورك دورة مفاوضات جديدة حول الاتفاق هي الثالثة عشرة منذ العام 2013، من دون التوصل إلى حل الخلافات القائمة.
وفي وقت تضغط نقابات أرباب العمل الألمان في اتــجــاه تــوقــيع اتفــاق التجارة في أسرع وقت، ترفضه نقابات الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل عملياً معظم الشركات الألمانية، وتطالب بتغييرات أساسية فيه تحمي مصالحها.
وإذ يرى اتحاد الصناعة المؤيد أن «لا رابحين ولا خاسرين في الاتفاق» يتزايد التشكيك فيه في صفوف المجتمع المدني، وسط مخاوف من تقليصه المعايير الصحية والبيئية الأوروبية. وفيما يعتبر مؤيدو الاتفاق أنه يدعم اقتصاد طرفي الأطلسي بنحو مئة بليون دولار، يخشى منتقدوه أن يفضي إلى تسريح عمال، وتآكل قوانين حماية المستهلك والمعايير البيئية المرعية الأجراء. وبات 17 في المئة من الألمان و15 في المئة من الأميركيين فقط، وفقاً لاستطلاع أجرته أخيراً مؤسسة «برتلسمان» الألمانية، يعتقدون بأن اتفاق الشراكة الأطلسية «أمر جيد» بعدما كانوا اكثر من 50 في المئة عام 2014.
وعلى رغم استبعاد التوصل إلى اتفاق كامل قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، تصرّ مركل على تحديد «الخطوط الكبرى» له على الأقل قبل انتهاء ولاية أوباما. وأعلنت المفوضية الأوروبية عن نيتها «الوصول إلى توافق حوله في نهاية العام الحالي»، لكن نظراً إلى الصعوبات التي تواجه الاتفاق لم يخفِ الرئيس الأميركي نيته التركيز على ملف آخر يبدو أنه أكثر سهولة، وهو اتفاق التجارة الحرة بين الولايات المتحدة ودول منطقة آسيا – المحيط الهادئ.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-dYh