عقود ثلاثة مضت، وطروحات هذا الإعلامي – الدبلوماسي – السياسي تزداد جرأة ووضوحا، في انسجام ثابت مع رؤيته الليبرالية بشقيّها؛ السياسي والاقتصادي. فكره يزاوج بين القيم الوطنية ومبادئ الإنسانية الملتزمة بالديمقراطية المدنية، مؤمناً بالتعددية وسيلة، والديمقراطية ديدنا لإعمار دولة المواطنة وسيادة القانون.
تلكم خلاصة رؤية رجل يمثّل أنموذجا للعديد من أبناء جلدته؛ قائمة على قناعات خاصة راكمها منذ وعى على الدنيا في كنف عائلة أردنية مثقفة، ساهمت في بناء الاقتصاد الوطني، ثم جبلها بالثقافة العربية الأوسع، وصقلها بتجاربه في العالم الغربي، حيث نال دكتوراه في الاتصالات من جامعة بيردو الأميركية العام 1981.
عقب عودته إلى عمان، عمل د. المعشر موظفا في وزارة التخطيط؛ أولى خطوات تحقيق حلمه ببناء مجتمع تعددي، قائم على العدالة والانفتاح على الآخر.
هذا الإعلامي/ المثقف المبدع الذي انخرط لاحقا في معترك السياسة والدبلوماسية، لم يغير قناعاته المتأسسة على قبول الجميع في المعادلة السياسية المبدئية التي آمن بها، والتي يصر بعض مسؤولينا على نعتها بـ”السذاجة السياسية”، فقط لأنه يرفض خيار الصمت والانطوائية. وهو بذلك بخلاف العديد من كتابنا ومثقفينا وساستنا لأنهم ببساطة لا يريدون أن يغضبوا المتنفذين ويخسروا علاقاتهم.
لم يغيّر د. المعشر لونه السياسي بحثا عن “تربّح من دوام الحال”، عبر الإبقاء على سياسة الأمر الواقع لحماية النفوذ والمكاسب الضيقة. بل أصر وما يزال على ترسيخ قيم التعددية، سياسياً ودينياً وثقافياً ومجتمعياً.
كتاباته حال مواقفه، كانت وما تزال واضحة كالشمس. لم يسكت في زمن الأحكام العرفية، حين كانت كل كلمة مسموعة أو مقروءة “توزّن” 20 مرة في عقول أصحاب الأقلام، خشية سطوة تلك الأحكام، والتي قرّر الملك الراحل الحسين إزاحتها عن صدور الأردنيين عقب هبّة نيسان 1988. وصرخة الشعب تلك عكست توقه لتوسيع هوامش المشاركة في صناعة القرار، وإطلاق الحريات السياسية، ومحاربة الفساد؛ أماني ومطالب ما تزال حاضرة بيننا اليوم وبقوة.
كسر د. المعشر الأعراف السائدة، في وقت لم يكن مقبولا فيه أن يكتب موظف حكومي مقال رأي في صحيفة سياسية يومية تتضمن رؤية مغايرة للرأي السائد، أو رغبة في مواكبة أجواء التطور السياسي والاقتصادي والثقافي. وهو ما يزال يرفض الخوف والتردد والتحرج والمساومة والمهادنة والمتاجرة بالمبادئ أو الانغماس في شبهات فساد. يحترم النقد ويقبل الاختلاف في إطار الحجة والمنطق.
لطالما احترم مهنة الصحافة كـ”سلطة رابعة” في المواقع الرسمية التي تبوأها لاحقا؛ بدءا من مستشار إعلامي لرئيس الوزراء الراحل الأمير زيد بن شاكر، ثم ناطق رسمي لأول انتخابات نيابية حرة، وبعدها ناطق رسمي باسم وفد الأردن لمفاوضات السلام مع اسرائيل. وبعد ذلك سفيراً في تل أبيب ثم واشنطن، مروراً بتسلمه حقيبة الإعلام قبل أن يكتب قانون إلغائها، مروراً بحقيبة الخارجية وأيضاً نائبا لرئيس الوزراء، ووزير بلاط.
كان رياديا وما يزال.
بإخلاص، قاد لجنة صياغة الأجندة الوطنية، التي وضعت خريطة طريق إصلاحية؛ سياسية – اقتصادية – اجتماعية متكاملة لضمان أمن الأردن وازدهاره واستقراره، وفق رؤية الملك عبدالله الثاني.
وفي تلك المهمة، سجّل المعشر ريادة سبقت عواصف التغيير في العالم العربي مطلع العام 2011، والتي أطاحت بأنظمة بوليسية في تونس، مصر، ليبيا، واليمن، كما أدخلت سورية في نفق مظلم.
اليوم، يعود مجددا للأردن حاملا آمالا وطموحات متجددة، وسط ذات التحديات والأمواج المعاكسة.
لا يتوقف عن الدعوة إلى “اليقظة وممارسة التعددية والديمقراطية”، كخشبة خلاص وحيدة لجميع الحكومات العربية، حتى بعد وأد الأجندة الوطنية على يد قوى الشد العكسي المتحالفة مع رجال مال واقتصاد، وما يسمى “حزب البيروقراطية المتجذر”. وهو لن يتوقف.
د. المعشر كان بين قلّة من المسؤولين كتبوا مذكراتهم عن تجربتهم في المناصب الرسمية، ما وفّر كنزاً موثقاً من المعلومات كشاهد على العصر، وظّفها لاحقا في كتابه الأول بعنوان “الوسط العربي: وعد الاعتدال” (2008).
وقد واصل نهج التوثيق خلال جلوسه في مركز أكاديمي مرموق بحجم “كارنيغي”، ليؤلف كتابه الأخير “اليقظة العربية الثانية والنضال من أجل التعددية” (2013).
قدّم كتابه للأردنيين في عمان مساء 14 نيسان (أبريل) الحالي، أمام حشد لافت، ضم رؤساء وزارات سابقين، وشخصيات سياسية، وشبابا من ألوان سياسية وفكرية متعددة. وبذلك، يحرك مياه الإصلاح الراكدة.
يصرّ مرة أخرى على ان المفتاح الرئيس لبناء أنظمة سياسية جديدة ما بعد 2011 يكمن في ترسيخ قيمة الاعتراف بالتعددية، وبديمقراطية لا تقوم على إقصاء أي جهة، بمن في ذلك الإسلاميون الذين لم يعرف عنهم مواقف مؤيدة للتعددية.
الجميع جاء ليستمع ويتفاكر، وليستيقظ الحلم في وجدانه، وليس بالضرورة ليتفق مع ما يطرحه د. المعشر.
الأمسية التي استضافها منتدى مؤسسة عبدالحميد شومان الثقافي، عكست في بعض جوانبها تعطش النخب السياسية والاقتصادية -حال رجل الشارع العادي- إلى لقاءات فكرية جادة، تسلط الضوء على موضوعات تهم الفرد والمجتمع، وتتيح المجال لتبادل الأفكار ونقد الآراء، وتقييم الموافق، والتعبير عن الهموم والطموح لمصلحة الوطن.
في هذه الجلسة، تجرأ المعشر وقال للإسلاميين إن “شعار الإسلام هو الحل” ثبت فشله، وأن عصر الأيديولوجيات الدينية ولّى إلى غير رجعة. وحثّ قادتهم على التحول إلى رجال سياسة يقبلون بمفهوم الدولة المدنية المبنية على التداول السلمي للسلطة في كل الأوقات؛ دولة تحترم حرية الفرد وتلتزم بكامل حقوقه.
وأهدى د. المعشر كتابه إلى جيل الشباب، لأنه بحسب رأيه “ثار بالإنابة عن والديه”، وأطلق ثورات “الربيع العربي” للمطالبة بمستقبل أفضل.
كحال سلسلة حوارات أخرى حضرها بعد عودته إلى عمان، صدحت أصوات تخالفه الرأي، وأخرى تريد سماع مقترحات بناءة تكسر الاحتكار القائم في المشهد السياسي بين خيارين فكريين وسياسيين لا ثالث لهما: احتكار الدولة بمؤسساتها الرسمية، أو التيار الإسلامي بتلاوينه كافة.
لكن ككل مرة، عادت أصوات لتهاجم
د. المعشر وأفكاره القديمة/ الجديدة، وتتهمه بأنه صنيعة أميركا ومروج “الوطن البديل”. وجميعها بالطبع تهم جاهزة ومعلبة وعاجزة، لأنها لا تقارع أفكاره ومقترحاته بأفكار مقنعة، بل ترد عليها بالسب والشتم والتشهير في محاولة لإسكاتها بالترهيب.
هي ذات الأصوات التي أجهضت الأجندة الوطنية، وعارضت مبادرات من قبيل “الأردن أولا”، ووقفت ضد أي محاولة جادة تضع الأردن على طريق المستقبل، وتؤسس لدولة مدنية قائمة على المواطنة، وحكم القانون، والفصل بين السلطات، وتحقيق عدالة اجتماعية، ومجلس نيابي واسع التمثيل ينبع من قانون انتخاب يدفن أسس الصوت الواحد.
يتساءل عديدون عن سبب “التهويش” الإعلامي والسياسي الذي يطارد د. المعشر في كل مرة يفتح فمه في الأردن ليقول رأيه الذي لم يتغير منذ العام 1980. والسؤال المليوني: لماذا يشيطن رجل يؤمن بأن الإصلاح يجب أن يقوده الملك، ويفترض أن يعكس أفكارا وتوجهات متقاربة مع الخطاب الرسمي، أو للأفكار المطروحة في أوراق النقاش الملكية التي تطالب بـ:
– قانون انتخاب جديد يكسر مبدأ الصوت الواحد، ويخرج برلماناً أوسع تمثيلاً.
– إصلاح اقتصادي يخرج الأردن من عنق الزجاجة والنظام الريعي، بما يخلق فرص عمل معيارها الكفاءة، مع الأخذ بالاعتبار احتياجات التجمعات الأقل حظا.
– مواطنة متساوية لحملة الجنسية الأردنية من الأصول والمنابت كافة، وليس لمن لا يحمل الجنسية الأردنية.
– تعددية سياسية وثقافية ودينية ومجتمعية ومساواة المرأة والرجل أمام القانون.
إن لم تعجب هذه الأفكار بعض المتنفذين، فلماذا لا يخرج أي منهم ليقول عكس ما يؤمن به د. المعشر وما ترضى به مجاميع الأغلبية الصامتة؟ ليخرج منهم من يقول لنا إن أمن الأردن واستقراره يتحقق من خلال المحافظة على النظام الاقتصادي الريعي، وقانون الانتخاب الحالي مع بعض مساحيق التجميل، ومن خلال إبقاء النساء مواطنات من الدرجة الثانية؛ يحظر عليهن نيل حقوقهن القانونية والدستورية.
شكرا لـ د. المعشر، وللقلة القليلة التي تحاول كسر احتكار حزبي السلطة والإخوان. فكما قال رئيس الوزراء الأسبق عبدالكريم الكباريتي الذي أدار جلسة الحوار الأخيرة:
“د. المعشر جاء ليس فقط ليسد فراغاً كبيراً، بل ليفتح باباً واسعاً يطل على مستقبل أفضل”.