اذا اتفقنا على ذلك، فان من واجبنا الانصات لاصوات اخواننا القضاة الذين احتجوا على المادة (38) من مشروع قانون استقلالهم، لا للدفاع عنهم فقط، وانما عن العدالة ايضا، فهم حراسها والمؤتمنون عليها والادرى بشؤونهم وشؤونها، اما المادة محل النقاش والانتقاد فقد نصت على ما يسمى “بالمسؤولية المدنية” التي (تقوم بحق القاضي في حالات، هي: إذا وقع منه في عمله غش او تدليس او خطأ مهني جسيم، إذا امتنع عن الاجابة على طلب قدم له أو عن الفصل في قضية صالحة للحكم، في الاحوال الاخرى التي يقضى فيها القانون بمسؤولية القاضي والحكم عليه بتعويضات.و يشترط لتحريك الدعوى أن يكون المتضرر استنفد جميع طرق الطعن المقررة قانونا).
وجهة نظر الحكومة التي اعدت المشروع تتلخص في تصريحات رئيس ديوان التشريع(د.نوفان العجارمة) التي ذكر فيها انه “يمكن لأي شخص طبيعي أو اعتباري أو هيئة رسمية، تضرر من “خطأ جسيم” لأي قاض، أن يحرك دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن مقدار الضرر الناجم، علما إن الدعوى تحرك ضد القاضي أمام القضاء نفسه، وأمام قاض مدني، وبالتالي فان المشروع لا يمس القضاء واستقلاليته، ولا يهينه او ينتقص من مكانته العالية، بل يوازن بين الحقوق والواجبات بين القضاة والمواطنين”.
اما وجهة نظر القضاة الذين احتجوا على المادة المذكورة فتتلخص في أن مثل هذا النص قد “يدفع بالقضاة للإحجام عن إصدار القرارات”نظرا لما يترتب على القاضي من غرامات كبيرة في حال الطعن بقراراته “ خاصة وانه يصبح من حق اي مواطن، تقديم شكوى بحق محكمة التمييز، أو محكمة الاستئناف، أمام قاضي بداية الحقوق، الامر الذي قد يثير الشقاق والانقسامات بين طبقات المرفق القضائي، كما قد يولد لدى القاضي مخاوف من عدم القدرة على دفع الغرامات “ القضاة اشاروا -ايضا- الى انه يفترض أن توجد بيئة نظيفة لعمل القضاة قبل محاكمتهم، وأن يمنحوا حقوقهم قبل أن يطالبوا بالتزامات قد تدفعهم لاحقا في حال العمل بمثل هذا المشروع للتخلي عن رواتبهم، علما بأن القضاة في محاكم الصلح والبداية ينظرون في اليوم الواحد ما بين 50 و60 قضية، في حين ينظر القاضي في الدول الأخرى بالحد الأعلى 12 قضية، وهذا يؤدي إلى الوقوع بالخطأ في بعض الحالات،لكن هذا الخطأ –ان حصل – يمكن تعديله كون المحاكم على درجات، فما يخطئ به قاضي البداية تعدله محكمة الاستئناف، ومن يرى أنه متضرر فهناك جهاز تفتيش قضائي يسائل القاضي عن خطئه”.
المشكلة بالطبع ليست هنا، وانما ثمة مخاوف من ان يدفع هذا النص الى تحصين الفاسدين، ومنع صدور أحكام عليهم لصالح الحق العام،، او لصالح مشتكين آخرين من أصحاب الحقوق، والامثلة بالطبع كثيرة، لا سيما ونحن في عصر “مواجهة الفساد” حيث تتزاحم ملفاته في الطريق الى القضاء، وحيث تتردد معلومات مختلفة عن تسويات في ملفات فساد كبرى، ومصدر الخشية هنا مفهوم ومشروع ايضا، اذ إن بمقدور اي متهم بالفساد ان يستنفر اعوانه للطعن في اي قرار يصدر بحقه، ولنا ان نتصور كيف يمكن للقاضي ان يطمئن وهو يصدر الحكم وامامه “سيف” مصلت بدفع ملايين الدنانير اذا ما اثبت المحكوم ان القرار الذي صدر بحقه كان خاطئا.
قبل نحو “7” سنوات اشرت الى محاضرة للفقيه القانوني الاستاذ فهد ابو العثم كان عنوانها “ ادارة العدالة، اصلاح وتطوير “، ذكر فيها مسألتين هامتين لتعزيز استقلال القضاء، إحداهما، ضرورة استقلال السلطة القضائية بمواجهة باقي السلطات من الناحيتين الادارية والمالية بأنْ تتولى تعيين قضاتها ونقلهم وانتدابهم واحالتهم إلى التقاعد وتأديبهم، وتضع الموازنة المالية للجهاز حتى لا يقع تحت رحمة باقي السلطات، اما المسألة الاخرى فهي استقلال ذوات القضاة في ممارسة قضائهم وحيادهم وحريتهم في ابداء الرأي والاجتهاد دون ترغيبهم بمكافآت او ترهيبهم بجزاء لحملهم على الفصل في المنازعات على نحو معين.
الان لا ادري بعد هذه السنوات ما الذي تحقق على صعيد هذه الاستقلالية كما لا ادري اذا كانت المادة(38) مست او جرحت ما اشار اليه استاذنا ابو العثم حينما تحدث عن استقلال ذوات القضاة، لكن المهم هو ان الحديث عن اي اصلاح سياسي بمعزل عن اصلاح القضاء سيظل ناقصا ومشوبا بكثير من العيوب والعور، وما دمنا في اطار مناقشة مشروع قانون استقلال القضاة الذي لم يقر بعد فان من المناسب والمطلوب معا ان نصغي لاصوات فقهاء القانون في بلادنا وان نفتح عيوننا على ما يدور في اروقة “قصر العدل “ لكي نعزز فكرة القضاء “الشامخ “ والنزية،وننتصر لفرسان العدالة ايضا .