التنقل بين القاعات التي تحتضن فعاليات «القمة العالمية للحكومات» في دبي، يتجاوز التنقل بين موضوعات وعناوين، يبدع منظمو القمة في تجديدها كل عام. نجت القمة، ككل مرة، من الوقوع في فخ أن تصير تجمعاً لجموح الخيال العلمي والتقني والإداري، أو مصنعاً لمعالجات افتراضية لمعضلات الحكم الرشيد، وتطوير تقنيات الاستجابة للمشكلات الطارئة بفعل التكنولوجيا والهجرة والتغيير الديموغرافي والمناخي واضطرابات الهويات والأزمات المالية والاقتصادية. فيها الكثير من ذلك بالطبع، من دون أن تُختصر به. فيها الكثير من الأفكار قيد التجريب وأخرى لم تجد لها مكاناً في الواقع بعد. وفيها الواقع بكل مراراته لا سيما في منطقتنا العربية.
أزمنة مختلفة تتجاور في قاعات القمة في لحظة واحدة؛ ففيما كانت إحدى القاعات تستضيف حائز جائزة نوبل في الاقتصاد الأميركي بول كروغمان، متحدثاً عن تطبيقات تقنية «البلوك تشاين» وتأثيراتها على مرتكزات التجارة في العالم، كانت قاعة مجاورة تلقي الضوء على أربع تجارب شبابية عربية من صناع الأمل في مجتمعاتهم أو مجتمعات أخرى.
تنتقل من كروغمان و«البلوك تشاين» والتجارة الدولية وأرقامها الفلكية وطاقتها الجبارة على صناعة السلم والحرب والتدخل في كل تفاصيل تجربة التفاعل بين البشر، ليصدمك السوداني فارس النور بواقع الجوع في البلد الذي اشتهر بأنه سلة غذاء العالم.
فارس النور واحد من أربعة تحدثوا في جلسة عنوانها «كيف نحارب التطرف بصناعة الأمل». بإمكانات متواضعة أطلق « » في السودان، بعد أن لاحظ أن الجوع سبب رئيسي للتسرب المدرسي.
بدأ المبادرة بعشرين سندويتش فول ووصل إلى توزيع على أطفال المدارس والشوارع والمشردين. قبله تحدثت معالي العسعوسي الكويتية التي اختارت العمل التطوعي الإنساني في اليمن، بعد أن زارت هذا البلد ضمن نشاط خاص بها عام 2007، لتكتشف حجم الفقر والمعاناة حيث حلت. أسست العسعوسي مبادرة «تمكين» وحددت مهمتها بالإسهام في الارتقاء بنوعية حياة أفضل للمجتمع بشكل عام والمرأة والأطفال بشكل خاص، من خلال إنشاء المشروعات التنموية بلا أهداف ربحية وبدأت بعدد أسر محدود هو 50 أسرة لتصل إلى 120 ألف أسرة. وما لبثت أن انتقلت إلى تقديم الخدمات الصحية ومكافحة العمى، وهي حملة استفاد منها 24 ألف إنسان. كما نفذت 15 مشروعاً مائياً استفاد منها أكثر من 45 ألف شخص، كما نظمت 30 حملة إغاثية لأكثر من 250 ألف شخص، ووفرت أكثر من 600 منحة دراسية، وساهمت في تمكين أكثر من ألف أسرة.
تجربة مشابهة هذه المرة من مصر حين قادت الصدفة الشاب محمود وحيد نحو رجل مسن مشرد غلبه النوم في أحد شوارع القاهرة، تكسوه ملابس رثة، تبدي جروحاً متفرقة في جسده الذي ينهشه الدود. صورة هذا الرجل غيرت حياة محمود وحيد الذي انتقل من مساعدة المشرد المسن إلى إطلاق مبادرة «معانا لإنقاذ إنسان»، كدار شاملة لإيواء ورعاية المشردين الكبار والمسنين، الذين يتم انتشالهم من الشارع وتوفير كل أشكال الرعاية الطبية والنفسية لهم، وإعادة تأهيلهم لسوق العمل، لمن يرغب منهم، إلى جانب البحث عن أهاليهم وإرجاعهم إلى أسرهم.
ومنذ إطلاق مؤسسة «معانا لإنقاذ إنسان» قبل ثلاث سنوات، تم افتتاح داري مأوى تابعتين للمؤسسة، ويجري العمل حالياً على دار ثالثة، وخلال تلك الفترة، ساعدت المؤسسة أكثر من 1000 مشرد معظمهم من كبار السن. الجلسة الرباعية كانت افتتحت بتجربة من العراق مع هشام الذهبي الذي هاله واقع أطفال الشوارع في العراق بعد حرب 2003، فأسس بيت العراق الآمن، الذي غير من خلاله مفهوم الميتم، وصار أباً لعشرات الأطفال الذين يستعيدهم من الشوارع والأرصفة والإدمان ويعيد تأهيلهم وإدماجهم، إما في عائلات جديدة أو في مؤسسات رديفة للبيت العراقي.
من الصعب تقدير حجم الارتباك الذي يصيبك بعد ندوة من هذا النوع وأنت تشاهد بأم العين حجم الفوارق في الهموم بين المستغرق في آثار البلوك تشاين أو ثورة الروبوتات أو أخلاقية عالم ما بعد الطائرات «الدرونز» أو الواقع القانوني الناظم للعلاقة بين البشر واللوغاريتمات، وغيرها من العناوين الجبارة، وبين الغارق في هموم إشباع معدة طفل في السودان أو إيواء مسن في القاهرة أو طفل في العراق أو امرأة في اليمن!!
ربما فقط في دبي تتجاور هذه العوالم. في هذه المدينة المشدودة إلى الحداثة كسهم نحو طريدة، والضاربة عميقاً في تربة الأمل وصناعته خلافاً لكل الشروط الموضوعية المانعة لذلك. ليس صدفة أن هذه المدينة، التي حولت نفسها إلى مختبر تقني متطور للأفكار والابتكارات والمستقبل، كانت أيضاً عبر مبادرة صناع الأمل التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد، حاضنة لتجارب اثنين على الأقل من التجارب المذكورة أعلاه وغيرها.. هو هذا الرابط العميق بين الاثنين الذي يفسر دبي.. لا مستقبل بلا أمل.