استقرت الأسواق العالمية بعد مراجعة متأنية لنتائج الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة البريطانية من الاتحاد الأوروبي وراحت تركز على أخبار أخرى، في الوقت الذي تحولت فيه الشركات إلى الاهتمام بتقييم أضراره وفرصه المستقبلية. وعلى الرغم من فقدان الأسواق العالمية تريليوني دولار في أعقاب الاستفتاء، فإنني أعتقد أن سبب رد الفعل الأولي العنيف جدا يعود إلى صدمة معظم المستثمرين من نتيجة التصويت التي خالفت توقعاتهم. فعديد من الأسماء الكبيرة في عالم الاستثمار انحازت إلى الجانب الخاطئ من هذه المسألة، وأنتج ذلك قدرا كبيرا من التقلبات والضغط النزولي على الأسواق الدولية.
ونرى اليوم أن أضواء وسائل الإعلام العالمية أصبحت تسلط على أخبار أخرى، مثل حالة العمالة في الولايات المتحدة الأمريكية، وسياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي، وانتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الشركات البريطانية والأوروبية ستستمر على الأرجح في المرور بفترة من عدم الاستقرار على المدى القصير. لكن ذلك لا يعني حكما أخبارا سيئة فحسب، بل سنشهد عديدا من حالات الربح مقابل الخسارة.
وأعتقد أنه على المدى الطويل، سيكون التأثير الكامل لخروج المملكة المتحدة البريطانية من سوق الاتحاد الأوروبي أصغر بكثير مما يتوقع لسببين. أولا، تطلع الأسواق إلى الأمام، فمعظم الانخفاض الحاد الفوري للأسعار، إن لم يكن كله، سينتقل إلى تحركات لاحقة متزايدة بعد ظهور معلومات جديدة. وعلى الرغم من أن الأمر سيستغرق أعواما للاطلاع على الخطوات التي يجب تنفيذها من أجل خروج المملكة المتحدة البريطانية من سوق الاتحاد الأوروبي، فإن السوق المالية لن تأخذ هذا الوقت الطويل لمعرفة تأثيره، وأرى أن الأمر تم، وأن السعر الناتج عن هذا التأثير قد حدد فعلا.
ثانيا، قد يكون خروج المملكة المتحدة البريطانية من سوق الاتحاد الأوروبي أزمة وفرصة في آن واحد للشركات المختلفة. لأن ذلك سيضعف الجنيه الاسترليني ويفيد المصدرين البريطانيين من جهة، بينما يؤدي من جهة أخرى إلى معاناة المستوردين البريطانيين والمصدرين إلى المملكة المتحدة، ومنها شركات صناعة السيارات الأوروبية. أما على المدى الطويل فإن تحديد سلبية أو إيجابية خطوة خروج المملكة المتحدة البريطانية من سوق الاتحاد الأوروبي فسيبقى مرتبطا بطبيعة القطاعات الاقتصادية المعنية.
إذا أخذنا في الحسبان أن إيجابيات الخروج تعادل سلبياته، وأنه توجد قضايا رئيسة أخرى لها وزن في السوق مثل استمرارية الانتعاش في الولايات المتحدة، والتباطؤ الاقتصادي في الصين، فإن التأثير العام لخروج المملكة المتحدة قد يبدو أفضل مما يعتقد كثير من المحللين.
سيستفيد المسافرون إلى المملكة المتحدة والمستهلكين الذين يشترون البضائع البريطانية من خروجها من الاتحاد الأوروبي إضافة إلى المصدرين البريطانيين المذكورين سابقا، لأن أسعار المملكة النسبية ستصبح أخفض. وسيتأثر عديد من الأسواق الناشئة بذلك الخروج أيضا من خلال أسواق العملات والتجارة. فالصين، مثلا، ستشعر بتأثير ذلك في عملتها التي ترتبط بسلة عملات رئيسة تشمل الجنيه الاسترليني. وستكون بعض تلك التأثيرات إيجابيا وبعضها الآخر سلبيا أيضا.
يسمح خروج بريطانيا بتحديد سياسات وترتيبات تجارية خاصة بها، على نطاق أوسع وفي المدى الطويل، بدلا من أن تخضع لقيود الاتحاد الأوروبي. وقد يكون هذا فرصة عظيمة أيضا. وعلى الرغم من أنه حدث غير مسبوق، إلا أنه يعني عمليا تغييرا للوضع الراهن. وقد يشعر بعض الناس بالقلق من أننا ذاهبون إلى المجهول لكن إذا نفذ جيدا فإن خروج المملكة المتحدة البريطانية من سوق الاتحاد الأوروبي سيوجد فرصا جيدة مقترنة بالتحديات.
القطاع الرئيس الذي كان مثار قلق الكثيرين هو قطاع التمويل، فلندن تمثل المركز المالي لأوروبا، إلى درجة أنها حتى تتحدى نيويورك عاصمة التمويل في العالم. وقد يؤدي خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى أضرار بمكانة لندن من هذه الناحية، إن قررت الشركات العاملة في هذا القطاع، من المصارف وصناديق التحوط وشركات الأسهم الخاصة، أن تنقل أعمالها ومواردها إلى خارج المملكة المتحدة. وتسبب هذا في القلق لكثيرين وحذرت منه المصارف الكبيرة قبل الاستفتاء. لكنني أعتقد أن احتمال هجرة التمويل من لندن أقل ترجيحا مما يخشى كثيرون، لسبب بسيط هو عدم وجود مركز مالي في قارة أوروبا قادر على منافسة مركز لندن من ناحيتي العمق والسيولة ورأس المال البشري ومستوى الرقابة. بل إن عددا من المصارف الكبرى ذاتها التي حذرت من الانتقال قبل التصويت غيرت رأيها وتقبع اليوم هادئة بلا إثارة للقلاقل.
والحقيقة أنه حتى إن فكر عديد من الشركات في القطاع المالي في الخروج من لندن أو من المملكة المتحدة، فلا توجد أماكن في أوروبا تجذبها للانتقال إليها. وقد تستفيد نيويورك والمراكز المالية الآسيوية من ذلك استفادة هامشية، تتعلق في معظمها بالأعمال التجارية العالمية، لكن لندن ستبقى المركز المالي الأول في أوروبا للمعاملات الأوروبية والصفقات.
يضاف إلى ذلك أن ضعف الجنيه سيمنح المستثمرين العالميين فرصا كبيرة للاستثمار في أصول المملكة المتحدة وعمليات الاندماج والاستحواذ. وهكذا نجد أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يوفر فرصا أيضا إضافة إلى التحديات.
لا تنتمي المملكة المتحدة الآن إلى سوق واحدة، بل أصبحت سوقا منفصلة أصغر، لكن إذا تمكن واضعو الأنظمة والتشريعات والسياسيون البريطانيون من اغتنام هذه الفرصة لجعل لندن والمملكة المتحدة مركزا ماليا منافسا فعلا ووجهة استثمارية جذابة، فإنني أرى أن هذه الميزة ستمتد لعقود مقبلة، ويتعاظم هذا خصوصا إذا استمرت نظيراتها في أوروبا متخلفة عن اتخاذ خطوات جدية على مستوى الإصلاحات والابتكار.