تتوالى المؤشرات الاقتصادية الدالة على تدهور الاقتصاد الروسي بوتيرة سريعة لدرجة تثير الدهشة، خاصة في بلد يمتلك احتياطيات نقدية ضخمة من العملة الصعبة، وكان اقتصاده يصنف قبل أعوام قليلة ضمن الأقوى في العالم.
فقد هوى الإنتاج الصناعي الروسي بنسبة 20% خلال شهر فقط، وأعلنت ثمانية بنوك روسية كبرى تسريح ما يربو على خمسين ألف موظف، من أبرزها بنك “روسكي ستاندارت” و”إف تي بي” و”روس فينانس بانك” و”كريديت فينانس بانك” و”بانك فستوتشني إكسبرس”، كما تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن حجم متأخرات الأجور الحكومية للموظفين بلغ نحو 550 مليون دولار.
كما أن تنامي مشاعر الاستياء الشعبي دفعت محتجين من مقترضي العملات الصعبة لاقتحام مقر حزب “روسيا الموحدة” الحاكم، ويأتي ذلك بعد اعتصامات عدة نظموها أمام مبنى البنك المركزي الروسي، مطالبين بمساواتهم بمواطني شبه جزيرة القرم الذين أعادت الحكومة جدولة ديونهم بـ33 روبلا مقابل الدولار، في حين يبلغ السعر الحالي للدولار نحو ثمانين روبلا.
آثار جانبية
توضح الخبيرة الاقتصادية في الدوما الشعبية مارينا يميليانتسفا أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها روسيا تسببت في حدوث ردود فعل انعكاسية سلبية زادت من حدتها، إذ إن استمرار تراجع المؤشرات الاقتصادية ولّد موجة جديدة من تدفقات رؤوس الأموال للخارج، وأدى إلى سحب الكثير من الاستثمارات من الاقتصاد الروسي، أضف إلى ذلك أن الكثير من الشركات الأجنبية إما أنها علقت أو قلصت أنشطتها في روسيا.
وأضافت أن العقوبات المالية قللت من توافر رؤوس الأموال في روسيا؛ ونتيجة لذلك ارتفع سعر الإقراض من البنوك الروسية، وهذا بدوره تسبب في إيقاف تنفيذ العديد من المشاريع الاستثمارية، وتقليص أنشطة العديد من الشركات، وإلحاق الأذى بقطاعي المشاريع الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص.
كما أن انخفاض قيمة الروبل زاد الكلفة على الشركات الروسية التي تتعامل بالروبل، في حين أنها تسدد ديونها للخارج بالدولار وغيره من العملات الأجنبية، مما تسبب في إفلاس الكثير منها.
كما لفتت إلى أن سعي بعض الشركات لتجاوز الأزمة بتقليص العمالة وتسريح الموظفين زاد من معدلات البطالة، وهذا بدوره فاقم الآثار الاجتماعية للأزمة. وتسبب هبوط العملة في عدم استقرار الأسواق؛ إذ يضطر التجار في كثير من الأحيان إلى إعادة تسعير البضائع بشكل يومي باتجاه رفع الأسعار على المواطنين الذين تراجعت قدراتهم الشرائية وتراجعت مدخولاتهم الحقيقية.
خيارات صعبة
أما الخبيرة المالية في شركة رامكس فالنتينا نيكندرفنا فترى أن تحقيق النصر لا يكفيه امتلاك قوة عسكرية متينة تستند إلى اقتصاد ضعيف، إذ إن تجارب العقود الماضية أظهرت أن الغرب استطاع من خلال الضغوط الاقتصادية أن يحقق ما لم يحققه بالقوة العسكرية، وروسيا للأسف لم تكن مستعدة بما يكفي لهذه السيناريوهات.
وأضافت أن العوامل السلبية التقت في آن واحد لتؤدي في مجملها إلى إحكام الأزمة المالية الروسية.
فعلى الصعيد السياسي أدت الأزمة الأوكرانية والعقوبات إلى عزل روسيا وإنهاء حالة الانفتاح الاقتصادي على الغرب، وانخفاض أسعار النفط أدى إلى تقليص عوائد الخزينة الحكومية الروسية بشكل حاد، والحروب على عدة جبهات زادت النفقات العسكرية؛ وفي المحصلة اجتمعت هذه العوامل الرئيسية الثلاثة لتضرب الاقتصاد الروسي من عدة محاور.
وأوضحت أن الضربة الأقوى التي كبدت الخزينة الروسية خسائر فادحة هي تهاوي أسعار النفط، وهذه لا يمكن تعويضها عن طريق بيع موارد الطاقة الأخرى مثل الغاز، إذ يشكل النفط نحو 80% من عائدات الصادرات الهيدروكربونية.
وأوضحت المتحدثة أن روسيا تقف أمام تحد صعب: فإما أن تذهب للمصالحة مع الغرب والتراجع عن المواجهة وصولا لرفع العقوبات عنها، خاصة عن قطاعي المصارف والطاقة، والعمل تدريجيا لإعادة الثقة بالاقتصاد الروسي، ولكن هذا يتطلب تقديم تنازلات صعبة.
وإلا فإن البديل هو مواصلة المسار الحالي، وهذا من شأنه تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد حرب يعاني من العزلة، وهذا بدوره سيقود الأوضاع إلى مزيد من التدهور.