بالتأكيد هناك فروق كثيرة، ولكن يحلو لعلماء الاجتماع أن يردوا على السؤال السابق بالقول «إن الانسان كائن يعرف ويدوّن تاريخه، وينقل ويراكم خبراته من جيل إلى آخر، أما الفئران فكائنات بلا ذاكرة، ولا تنقل خبراتها من الأسلاف إلى الأحفاد، والدليل أن الفئران يمكن اصطيادها بالطريقة نفسها منذ آلاف السنين (بالمصيدة وقطعة الجبن).
تبدو الإجابة منطقية، ولكن هل يمكن إثبات صحتها دائماً، خصوصاً فيما يتعلق بالأسواق المالية؟
ما من شك في أن هناك خبرات يتناقلها المتعاملون، وأن هناك تراكماً في الثقافة الاستثمارية ترفع من قدرتهم على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب، ولكن هذا لا يمنع أن هناك أخطاء تُرتكب، وبالطريقة نفسها والسيناريو نفسه، وأن كثيرين لا يمنحون أنفسهم الفرصة ليتعلموا من أخطائهم التي كلفتهم في السابق أموالاً طائلة، وبالطبع فقدان المال من أكثر الأمور إيلاماً للإنسان، وقديماً قالوا «عض قلبي ولا تعض رغيفي».
وقد يكون من الجائز أن يرتكب بعض المتعاملين أخطاء الماضي نفسها، ولكن أن تقع جهات مسؤولة في الفخ نفسه، فهذا أمر غير مقبول، خصوصاً والأسواق في بداية مرحلة جديدة من التعافي، كما أثبتت التعاملات على مدار أكثر من شهر.
مناسبة هذا الكلام الطريقة التي تعاملت بها الأطراف المعنية مع الارتفاعات القياسية لسهم «أرابتك»، والتي زادت على 50 بالمئة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، خصوصاً إدارة الشركة التي تجاهلت الرد على استفسارات وسائل الإعلام منذ بداية هذه الطفرة السعرية، وحتى الآن، وكذلك الجهات الرقابية التي لم تخاطب الشركة رسمياً، وفقاً للقانون والقواعد المتبعة، للاستفسار عما إذا كان لديها أسباب أو أحداث جوهرية غير معلنة تبرر هذه الارتفاعات المتوالية، واكتفت بتشديد الرقابة على تداولات السهم !
والأمر الطريف أن هناك تصريحات نسبت إلى أحد كبار المسؤولين في «أرابتك» يبرر هذه الارتفاعات بالقول «إن هناك زيادة في الطلب على أسهم الشركة، وهذا هو السر وراء صعود سهمها». ولم يذكر المسؤول مبرراً واحداً لهذه الزيادة في الطلب، ولا حتى مبرراً تقليدياً كحصولها على مشاريع جديدة، أو اتجاهها لتحقيق نمو في الأرباح.
لماذا هذا الغموض في التعامل مع مثل هذه الأمور؟ فإذا سلمنا أنه لا توجد أحداث جوهرية تبرر هذه القفزات، لماذا لم تقل الشركة ذلك؟ أما إذا كانت هناك أسباب سيتم الإعلان عنها لاحقاً بناء على رغبة الشركة، ألا يخل ذلك بمعايير الشفافية والإفصاح، ويعيد إلى أذهان صغار المستثمرين الذين هم وقود المعركة دائماً في أي سوق مالي، الإحساس بغياب الأمان على مدخراتهم لأنهم دائماً آخر من يعلم؟
ما من شك أن هذه الارتفاعات قد تكون مبررة حتى ولو لم تكن هناك أحداث جوهرية قد تغير مسار الشركة، خصوصاً أن سهمها كغيره من أسهم الشركات المدرجة في القطاع العقاري تضرر أكثر من غيره طوال 3 سنوات عجاف سابقة، وكان من المنطقي أن يكون أول الرابحين، وأن يصعد بقوة عندما تبدأ رياح التعافي في الهبوب على السوق، والدليل أن أسهماً أخرى لشركات تعاني مشاكل مالية متراكمة وترزخ تحت وطأة ديون بمليارات الدراهم مثل «الاتحاد العقارية» و«ديار» تصعد بقوة أيضاً، والسهمان صعدا بالحد الأقصى المسموح به في تداولات أمس، على سبيل المثال، ولكن الشفافية واجبة، خصوصاً مع شركة قيادية تسجل وحدها أكثر من نصف تعاملات السوق، كما حدث في الأسابيع السابقة، كـ«أرابتك».
في المقال السابق، «أسرار تدفق السيولة» قلت «إن المعطيات الظاهرية تشير إلى أن الأسواق تكاد تودع حالة الضعف التي ضربت أوصالها خلال سنوات سابقة، ولكن في المقابل، واهم من يتخيل أنها سوف تعود إلى سيرتها الأولى في سنوات الطفرة حينما كانت الأسهم والمؤشرات تتحرك في اتجاه الصعود فقط، من دون رادع، ولا حتى استراحة لالتقاط الأنفاس».
وبالطبع المسؤولية في ضبط إيقاع الأسواق تقع على عاتق السلطات المالية التي يجب عليها أن تُفعل الأدوات الرقابية المتاحة لديها، حتى تعود الثقة كاملة إلى الأسواق.
إن الجميع يريد أن تعود سنوات الطفرة مرة أخرى، وأن يعيد التاريخ نفسه في الأسواق المحلية، ويستعيد المتعاملون ذاكرة المكاسب التي فقدوها، ولكن «بعقلانية» هذه المرة، ومن دون «فقاعات» قد تنفجر في وجه الجميع كما حدث سابقاً.