قبل التطرق للآليات والفوائد أشير إلى أن كثيرا من الحكومات حول العالم تقوم بممارسة هذا الدور لأسباب ربحية بحتة قبل أن تكون لأسباب سياسية أو اجتماعية، وذلك لأن الحكومة في نهاية الأمر تعمل مثل الشركات، حيث إن لديها عائدات ومصروفات وهي معرضة للربح والخسارة من خلال وجود وفر أو عجز في ميزان مدفوعاتها وحسابها الجاري، ومعرضة للإفلاس مثل أي شركة. والشواهد على إفلاس الحكومات كثيرة منها حكومة آيسلاندا والأرجنتين وروسيا وألمانيا (مرتين) ودول كثيرة أخرى شارفت على الإفلاس لولا تدخل صندوق النقد الدولي لإنقاذها، مثل فنزويلا وأوكرانيا، وحالياً عدد من الدول معرضة للإفلاس مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا. وفي السابق استفادت دول مثل تايلاند من الهبوط الشديد لأسهم الشركات المدرجة في سوقها، عقب أزمة العملة التايلاندية التي تهاوت بعد تعويمها وفكها من الارتباط بالدولار ودعم صندوق النقد الدولي لها بمبلغ 16 مليار دولار، حيث قامت الحكومة بشراء أسهم بأسعار رخيصة جداً، وتم بيعها لاحقاً بأسعار عالية. وقبل ثلاث سنوات طالب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في خطاب أمام البرلمان الأوروبي بضرورة شراء أسهم الشركات الأوروبية الكبيرة للاستفادة من أسعارها المتدنية، إضافة إلى، حسبما صرح، منع المستثمرين من خارج أوروبا من امتلاك الشركات الأوروبية. وفي الولايات المتحدة قامت وزارة الخزانة الأمريكية بشراء كميات كبيرة من أسهم شركة أي آي جي التأمينية لامتلاك نحو 92 في المائة من أسهم الشركة، بعد هبوط سعر السهم بنسبة تجاوزت 99 في المائة خلال عام واحد، وفي الفصل الرابع من عام 2011 حققت الشركة ربحاً صافياً بنحو 20 مليار دولار، وفي الربع الأول من هذا العام حققت ربحاً بمقدار 16 مليار دولار. كما حققت الحكومة الأمريكية ربحاً صافياً قدره 12 مليار دولار من شرائها نسبة 27 في المائة من أسهم مصرف سيتي جروب أثناء الأزمة المالية، وحالياً شراؤها حصة 25 في المائة من شركة جنرال موتورز يبدو ناجحاً إلى حد كبير على الرغم من حدة الأزمة المالية وتأثيرها في الشركة، حيث قامت الحكومة بشراء 50 مليار دولار من أسهم جي إم، واستعادة نحو نصف هذا المبلغ من أرباح الشركة حتى الآن.
هل من حاجة حالياً إلى قيام الحكومة السعودية بالاستثمار في الأسهم؟
نعم هناك حاجة ملحة، ويجب ألا ننتظر وقوع الأزمات لنبحث عن الحلول. مرة أخرى أكرر أن الهدف من الدعوة لقيام الحكومة بالاستثمار في الشركة المدرجة ليس لتحمل الخسائر بدلاً من المستثمرين بقدر ما هو فرصة للحكومة للحصول على أسهم بأسعار متدنية لتحقيق عوائد مستقبلية مجزية، ولأسباب أخرى مهمة منها دعم استقرار السوق وبعث الثقة بها، وحماية المستثمرين من الخسائر الناتجة عن ضعف آلية عمل السوق وليست بسبب ضعف أداء الشركات العاملة فيها، إضافة لأهمية سوق الأسهم في دولة مثل السعودية حيث تشكل تعاملات الأفراد فيها أكثر من 90 في المائة من حجم التداول، وما لذلك من تأثيرات اجتماعية وسياسية في نفوس المتعاملين.
إذا كان على الحكومة ممارسة هذا الدور، فما الآلية المناسبة للقيام بذلك؟
أولاً هناك من قد يتساءل عما إذا كان باستطاعة الحكومة شراء كميات كبيرة من الأسهم والمحافظة على سعرها من الهبوط، ما قد يعرض أموال الدولة لخسائر كبيرة. والواقع أن الحكومة حالياً تمارس عملاً أكبر من ذلك بشكل كبير وتمارسه كل يوم، ألا وهو الحفاظ على سعر تثبيت الريال مقابل الدولار، حيث إن هذا الأمر يتطلب من الحكومة ممثلة في مؤسسة النقد البقاء على أهبة الاستعداد لدفع دولار أمريكي واحد مقابل ثلاثة ريالات و75 هللة متى ما أراد شخص القيام بتحويل العملة السعودية للدولار، الأمر الذي يتطلب إمكانات ضخمة مهولة لدى الحكومة للاستمرار في ذلك، وسنأتي لتشبيه ذلك بالدور الذي على الحكومة القيام به فيما لو قررت أن تلعب دوراً فاعلاً في سوق الأسهم. لكن للإيضاح فإن تثبيت سعر صرف الريال مقابل الدولار يعني أن الحكومة قدرت سعر صرف عملتها الوطنية بمبلغ 3,75 ريال لكل دولار، وذلك لاقتناعها بأن هذا السعر هو السعر العادل لعملتها، وبذلك فلو اعتقدت مجموعات من المضاربين بأن هذا السعر مبالغ فيه (كأن يرونه من المفروض أن يكون خمسة ريالات لكل دولار) فقد يقومون ببيع ما لديهم من ريالات للحصول على الدولار، فتضطر الحكومة إلى مدهم بالدولارات بقدر ما يحتاجون إليه طالما أنها على ثقة بأن لديها ما يكفي من الدولارات والعملات الأجنبية الأخرى للتصدي لهذه العمليات والحفاظ على سعر الصرف كما ينبغي. وقد حدث ذلك بالفعل مرات عدة وتمكنت الحكومة من تأكيد صحة سعر صرف عملتها. إلا أن هناك دولاً كثيرة لم تستطع القيام بذلك، ومنها تايلاند وعدد من الدول الآسيوية في أواخر التسعينيات الماضية، ودول أخرى كالمكسيك وأخيرا الصين إلى حد ما.
ما علاقة ذلك بسوق الأسهم؟ لنأخذ مثالاً متطرفاً نوعاً ما لإيضاح الفكرة، فلو أن الحكومة ارتأت لأن سعر سهم شركة سابك يستحق مبلغ 90 ريالا بكل جدارة لعلمها بقوة الشركة ومستقبلها، فقد تضع مبلغ 90 ريالا كسعر صرف أدنى لأسهم “سابك”. فلو كانت هناك حالات بيع لأسهم شركة سابك نتج عنها انخفاض السعر إلى أقل من 90 ريالا فستقوم الحكومة بشراء الأسهم عند ذلك السعر لأنها تعتبر رخيصة بالنسبة لها. ماذا لو استمر البيع فماذا على الحكومة عمله؟ الجواب أن تستمر في الشراء إلى أن تمتلك جميع أسهم الشركة إن لزم الأمر، طالما أنها فعلاً تعتقد بأن 90 ريالا يعتبر سعرا مغريا جداً. وهل على الحكومة القيام بذلك مع جميع أسهم السوق؟ بالطبع لا، لأن الهدف كما ذكرنا هو تحقيق ربح لمصلحة الدولة في المقام الأول، فلو أن هناك شركة لا تستحق السعر الذي انخفضت إليه فلن يتم شراؤها إلى أن تصل للسعر المستحق.
إذا كانت المسألة تقييما لأسعار الشركات وشراء المناسب منها، أليس ذلك متاحا للجميع وبالإمكان القيام بذلك من قبل كبار المستثمرين والمستثمرين بشكل عام؟ الجواب نعم، لكن تتميز الحكومة بأن لديها إمكانات مادية غير متاحة لغيرها، و”نفس” الحكومة أطول من غيرها بكثير، بمعنى أنها تستطيع الانتظار مدة أطول من غيرها، إضافة إلى أن لدى الحكومة أسبابا أسمى وأعظم من بقية المستثمرين في الحفاظ على استقرار السوق وجعلها ركيزة اقتصادية أساسية بشكل يختلف تماماً عن أهداف المستثمرين بشكل عام. إذاً هل الدور المقترح للحكومة دور صانع سوق؟ لا، لأن أهداف صانع السوق مختلفة، فهو عبارة عن جهة مخولة بالتداول اليومي لسد الفارق بين العرض والطلب وهو جهة تجارية هادفة إلى الربح.
في هذه العجالة يمكن تلخيص المقترح في إنشاء ذراع استثمارية نشطة تعمل لمصلحة أملاك الدولة مكونة من خبراء اقتصاديين وماليين يتم تعيينهم من قبل سلطة عليا في الدولة يمارسون عملهم باحترافية عالية وتحت إشراف مجلس رفيع المستوى يراقب أعمالهم ويجيز قراراتهم.
*نقلا عن الاقتصادية