اتخذت شركة “آبل” أول خطوة على طريق تحقيق الغاية التي تطمح إليها الشركات في مجال إتاحة برامج المساعد الشخصي الافتراضي لكل مستخدم للهواتف الذكية، وتلتها في ذلك عدة شركات كبرى.
طورت شركة آبل برنامج “سيري”، وهو عبارة عن “مساعد ذكي” يمكنه تشغيل الهواتف والأجهزة التي تنتجها الشركة من خلال تلقي أوامر صوتية، ثم أعقبتها شركة مايكروسوفت بتطوير برنامج المساعد الافتراضي “كورتانا”.
ومن بعدهما طورت شركة أمازون برنامج المساعد الصوتي “إيكو”، وهو عبارة عن سماعة إسطوانية الشكل، يمكنها تلبية الأوامر الصوتية الموجهة لها من صوت بشري، بمجرد أن تناديها باسمها “أليكسا”.
ثم زادت شركة غوغل من إسهاماتها في هذا المجال مؤخرًا بتقديم برنامج مساعد افتراضي يعتمد على المحادثة الصوتية ويتصل بالأجهزة الموجودة بالمنزل من خلال برنامج “غوغل هوم”.
وتعد كل هذه الشركات بتوفير طريقة سهلة لتسريع وتيرة حياتك وتنظيمها، ولكن من يستخدم برنامج المساعد الافتراضي غير أولئك المهووسين بالوسائل التكنولوجية؟ وقد كان لزامًا على أن أبحث في هذا الأمر، لاكتشف بنفسي. ولذا، فقد قررت أن أتوقف عن ملامسة هاتفي الذكي بأصابعي طيلة شهر، وأتفاعل معه في المقابل، قدر الإمكان، بصوتي.
في البداية، كثيرًا ما باءت محاولاتي بالفشل، وفي بعض المرات كانت هزلية، ولكن بعد فترة وجيزة، أدركت أن بعض الأشياء لن أعاود كتابتها بأصابعي على الهاتف قطّ، وبعض الأشياء من الأفضل أن أكتبها بأصابعي بدلًا من أن أطلبها بصوتي من برنامج المساعد الشخصي الافتراضي الأقل جدارة بالثقة.
فبعد مرور خمس سنوات على إطلاق هاتف “آيفون فور إس”، ويشير حرف “إس” إلى برنامج المساعد الافتراضي “سيري”، ما برح بعض الناس، مثل أولئك المولعين بأجهزة ماكنتوش الذين ذكرهم ليندر كاني في كتابه “المولعون بأجهزة ماكنتوش”، يحاولون زيادة سرعة أداء مهامهم اليومية، وتحسين كفاءتهم، والتغلب على كثرة النسيان من خلال الاستعانة ببرنامج المساعد الافتراضي.
ولكن حتى لو سألت شخصًا خبيرًا في استخدام الوسائل التكنولوجية التي تنتجها شركة آبل، فإنه سيقرّ أن استخدام برنامج المساعد الافتراضي ليس سهلًا على الدوام. وقال كاني: “تكمن مشكلة ‘سيري’ في أن عليك أن تجبر نفسك على استخدامه حتى تعتاد عليه”.
إذا استغلق عليك الأمر
وتبيّن لي من تجربتي التي استمرت لشهر واحد أن النجاح في استخدام برنامج المساعد الافتراضي يكمن في المحاولات المضنية التي تبذلها في البداية. ولكن بالطبع، لست متأكدًا إن كان من الأجدى أن أبدأ التدرّب على استخدامه في أثناء رحلة عمل.
فبمجرد أن استقرت بي الطائرة في الهواء، وجهت لهاتفي أمرًا صوتيًا بلهجة آمرة، وفي غضون ثوانٍ، كان أمامي خريطة لأفضل مطعم متخصص في أطباق الديك الرومي في ولاية ميشجن الأمريكية، ومواعيد العمل، ورقم الهاتف. ألا يبدو هذا رائعًا؟ مع الأسف لا.
فما كان الطلب الذي وجهته للهاتف إلا كما يلي: “أيمكنك مطالعة بريدي الإلكتروني” ولم أطلب منه أن يدلني على مطعم “كورنويل تيركيفيل” الشهير بأطباق الرومي في ميتشيغين.
ولم يقتصر الأمر على إساءة الفهم بيننا، بل تجاوز ذلك بمراحل. فلحسن الحظ، لم يسبب هذا الخلط واللبس الذي سببه برنامج المساعد الافتراضي إلا مشكلة كبيرة واحدة، حين حددّ لي المساعد الافتراضي غير الجدير بالثقة على الإطلاق تاريخ أحد المواعيد، بطريقة ما، في اليوم التالي للموعد.
وقد وضعني في موقف حرج، ولكن هذا لأنني وثقت بشدة في برنامج المساعد الشخصي الافتراضي. فعلى الرغم من أن التحكم الصوتي في الهاتف كان مفيدًا للغاية في بعض المهام، إلا أنني في بعض المرات كان ينتابني شعور مزعج كالأجنبي في بلد غريب الذي يكرر العبارة نفسها مرارًا وتكرارًا ويزداد صوته ارتفاعًا ويشير بيديه، في محاولة يائسة لإيصال فكرته.
وكان رفيقي في هذه التجربة برنامج المساعد الافتراضي “غوغل ناو” على هاتفي الذي يستخدم نظام التشغيل أندرويد، وقد تختلف النتائج مع اختلاف برامج المساعدة الافتراضية الشخصية التي تستعين بها. إلا أنه يمكن تعلّم الكثير من تجربتي. فقد وجدت أن العبرة باختيار المهام الصحيحة.
ومن أبرز تلك المهام التي يمكن أن تعتمد فيها على أحد برامج المساعد الشخصي الافتراضي، ما يلي:
الاتصال بأرقام الهواتف: اطلب من الهاتف فقط: “اتصل بجين سميث”، فلا داعي للبحث، ولا النقر على الشاشة. فهذه الطريقة أسرع كثيرًا من الطريقة التقليدية. حتى إنه بإمكانك أن تعرّف سميث على هاتفك بأنها رئيستك في العمل وحينئذ تقول فقط: “اتصل برئيستي”.
إرسال رسائل قصيرة: اطلب من الهاتف فقط: “ارسل رسالة إلى رئيسي، مفادها أنني سأتأخر عشر دقائق عن العمل”. ويمكنك أن تحدد الخدمة التي سترسل من خلالها الرسالة، إما عن طريق تطبيق “واتس آب” أو أي خدمة أخرى. إنها طريقة سهلة حقًا.
ويمكنك إرسال الرسائل النصية بتوجيه الأوامر الصوتية للمساعد الافتراضي إن كنت في عجلة من أمرك للحاق بموعد ما أو كنت تقود سيارتك. إذ تعد الأوامر الصوتية في هذه الحالة أكثر أمنًا بمراحل من البحث والكتابة على الهاتف وأنت في طريقك إلى مكان الموعد.
كما أن احتمال إرسال رسالة للشخص غير المقصود أقل من احتمال إرسال رسالة عن طريق الخطأ عبر البريد الإلكتروني التقليدي، لأن برنامج المساعد الشخصي الافتراضي سيسألك عن كل خطوة قبل اتخاذها.
إرسال رسائل البريد الإلكتروني السريعة على الفور: إن إرسال الرسائل عبر البريد الإلكتروني باستخدام برنامج المساعد الافتراضي لا يقل سرعة عن إرسال الرسائل النصية، ولكن إذا طالت الرسالة عن جملتين، فسيكون من الأسرع أن تكتب الرسالة بنفسك.
ولكن ما زالت خاصية التعرف على الصوت وتنفيذ الأوامر الصوتية بها الكثير من النقائص. فهي تعمل على أكمل وجه مع العبارات المعروفة والموثوقة. بيد أن هذه التقنية قد تحسنت بسرعة فائقة، إلى حدّ أنها يمكنها التعامل الآن مع معظم اللهجات، ويمكنها فهم صوتي، على الرغم مما أصابه من تشوه على إثر عملية إزالة ورم سرطاني على الحنجرة، أفضل من الكثير من الناس الذين يعجزون عن فهمه.
تحديد المواعيد: اطلب من الهاتف فقط: “سجل لي موعدًا جديدًا في جدول المواعيد: تناول الغداء مع تيم كوك، في ماديرا، غدًا في الساعة الواحدة مساءًا”. (تأكد من أن تزوده بكل المعلومات عن الموعد، قدر الإمكان، لئلا تدخل في حوار طويل مع المساعد الافتراضي، الذي سيحاول أن يحصل على جميع المعلومات التي لم تذكرها له).
التذكير بالمواعيد: اطلب فقط من الهاتف: “ذكّرني بأن أتصل بأمي في السابعة مساءً” أو بالذهاب إلى موقع من بين المواقع المسجلة في الهاتف: “ذكّرني بأن أذهب إلى محل التنظيف الجاف لأحصل على ملابسي المغسولة”.
إلا أنني أمضيت وقتًا طويلًا في تسجيل عناوين المواقع، ربما لأنني لا التزم بطريق محدد في المعتاد عند الذهاب من المنزل إلى العمل. وهذا يتطلب قسطًا كبيرًا من الذكاء الاصطناعي لتّتبع تحركاتي اليومية.
ضبط جهاز التحكم في التوقيت (المؤقِّت): اطلب فقط من الهاتف: “اضبط جهاز التحكم في التوقيت لينبهني بعد نصف ساعة من الآن”. وبهذا ستحدد لنفسك موعدًا محددًا لتنهي فترة من العمل بتركيز أو حتى تصير البيتزا جاهزة.
ماذا أرتدي: يمكنك أن تسأل الهاتف: “هل أحتاج إلى مظلة اليوم؟”
مراجعة جدول يومك في بداية اليوم: اسأل الهاتف: “ما هو جدولي اليوم؟” عندما كنت أستخدم هذه الخدمة في أثناء رحلة العمل، كان الهاتف يعرض لي مواعيد الرحلات، والحجوزات عبر موقع “أير بي إن بي” (وهو موقع على الإنترنت متخصص في تأجير واستئجار أماكن الإقامة)، والمواعيد، والمواقع التي أريد الوصول إليها مع عرض الخرائط وتوصيات بوسائل النقل التي سأستخدمها للوصول إلى هناك.
حتى أن المساعد الافتراضي لم يفته أن يذكر لي الوقت الذي يجب أن أغادر فيه المكان حتى أصل إلى المكان التالي في الموعد المحدد. والمدهش في الأمر، أنني لم أتأخر قطّ، فقد ساعدني برنامج المساعد الافتراضي، بأسلوبه في الإلحاح والتذكير بالمواعيد الذي يشبه أسلوب الأم، في التغلب على التفاؤل غير العقلاني الذي يلازمني عند تحديد كم يلزمني من الوقت للوصول إلى المكان.
وعلى الرغم من أن هذه الوظائف التي يؤديها برنامج المساعد الافتراضي مفيدة ونافعة للغاية، إلا أن قدراته تكاد لا تشي بأنه الوسيلة التكنولوجية التي يمكنها أن تتحدى قدرات المساعد الشخصي البشري. فما الذي حدث للمساعد الذكي الاصطناعي المذهل الذي وعدت به شركة آبل وغيرها من الشركات؟
يقول حسين رحناما، مدير البحث والابتكار بقسم الأوساط الرقمية بجامعة رايرسون، في تورنتو، ومؤسس شركة فلايبيتس الناشئة، إن العلماء يعكفون على ابتكار خدمة مساعد افتراضي بالاستعانة بالكمبيوتر منذ سنة 1950 على الأقل، حيث يخرج كل بضع سنوات منتج جديد إلى النور.
ومن بين المشاكل الرئيسية التي ما زلنا نواجهها حتى الآن، هي أن برامج المساعدة الافتراضية من هذا النوع، لا تجيد فهم الظروف والملابسات المحيطة برئيسهم البشري والتي ستمكنهم من فهم ما يقوله لهم.
فالمساعد الشخصي البشري لن يخفى عليه أنه بما أنني نباتي، ومتوجهًا إلى لندن، فليس من المرجح على الإطلاق أن أبحث على عجل عن مطعم متخصص في أطباق الديك الرومي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن هذا يجب أن يتغير.
وقال دكتور رحناما: “أنت تحمل معك أينما ذهبت 20 إلى 40 جهاز استشعار في هاتفك الذكي، الذي يشتمل على وحدة معالجة أقوى مليارات المرات من الكمبيوتر المركزي الذي كان مستخدمًا في خمسينيات القرن العشرين”.
وقد أعلنت شركة غوغل الأسبوع الماضي أنها بصدد إتاحة برنامج للمطورين يمكّنهم من تطوير تطبيقات تستطيع معرفة موقعك بالتحديد، ونشاطك البدني، وحالة الطقس، كما يمكنها أن تعرف ما إن كنت تضع سماعات في هاتفك الذكي الذي يعمل بنظام أندرويد أم لا.
وهذا يعني، على سبيل المثال، أن أحد هذه التطبيقات يمكنه أن يعرف أنك في اجتماع ولا تريد أن يزعجك أحد، أو ربما بإدخال أسماء الحضور في هذا الاجتماع، القريبين منك، فقد يكون من اللائق دعوتهم للخروج معك بعد الاجتماع، وقد يقترح التطبيق حينئذ، مكانًا قريبًا لتناول وجبة الغداء استنادًا إلى عادات المشاركين السابقة في تناول الطعام، كما أن بإمكان التطبيق أن يحجز مائدة في هذا المكان.
وبهذه المبالغ الهائلة التي تضخها شركات مثل غوغل وفيسبوك ومايكروسوفت والشركات الناشئة في مجال التطبيقات التي تدرك الظروف والمعلومات المحيطة بالشخص، مثل شركة فلايبتس، فإن حلم إتاحة مساعد افتراضي شخصي يحمله كل شخص أينما ذهب، قد يصبح حقيقة في القريب العاجل.
وإذا كنت لا تمانع أن تستغني عن خصوصيتك، فإن برامج المساعدة الافتراضية من هذا النوع، سرعان ما ستصبح قارئة للأفكار، شأنها شأن أفضل برامج المساعدة الافتراضية، وسيكون بمقدورها حينئذ أن تتخذ القرارات وتصدر التوصيات، من دون أن تطلب منها ذلك.