– لعل من أهم التداعيات التي خلفها تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام والمعروف اختصارا بـ” داعش” والتي تنبئ بولادة مشرق عربي جديد الملامح، هو البلبلة والاضطراب التي تسود أسواق النفط، إذ يخامر المتعاملين فيها درجة كبيرة من عدم اليقين Uncertainty لا سيما بعد سقوط محافظتي نينوى وصلاح الدين – مسقط رأس الرئيس الراحل صدام حسين – بيد ” الثوار” ومحاصرتهم مدينة “بيجي” التي تضم اكبر مصفاة للنفط في العراق.
إن حالة عدم اليقين هذه تزيد من الضغوط على أسعار النفط لا سيما مع دخول نصف الكرة الغربي فصل الصيف والذي يزداد فيه الطلب على الغازولين مع بدء ما يعرف بـ ” موسم السياقة” في الولايات المتحدة –اكبرمستهلك للنفط في العالم والبالغ 18 مليون برميل يوميا والذي يتزامن مع بدء العطلة الصيفية حيث شغف العوائل الاميركية هناك بالسيارات الفارهة ( الرباعية الدفع SUV) ذات الاستهلاك الكبير oil guzzler. في المقابل تشهد هذه الفترة تراجع الطلب على المشتقات لا سيما وقود التدفئة.
ويحتل العراق اليوم المرتبة الثانية من حيث الانتاج داخل اوبك بعد السعودية مباشرة وعند معدل 3.3 مليون برميل يوميا، وهو يتطلع الى زيادة إنتاجه الى 6 ملايين برميل يوميا من خلال ما يعرف بجولات التراخيص التي تمكنه من الاستعانة بالخبرات التقنية والفنية للشركات الاجنبية وذلك بحلول عام 2020.
ونظرا لاهمية العراق النفطية ولما يتمتع به من احتياطيات مؤكدة Proven Reserves وصلت في مطلع عام 2014 عند 143 مليار برميل ما يضعه في المرتبة الثالثة بعد السعودية وإيران، فإن القلاقل التي يشهدها والتي تنذر بحرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس “وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً” كل ذلك دفع بالاسعار المرجعية للنفط الخام في بورصتي نيويورك ولندن للارتفاع الى مستويات قياسية، إذ بلغ سعر خام متوسط غرب تكساس WTI عند الاغلاق يوم الجمعة الموافق 20 حزيران (يونيو) الجاري عند 107 دولارات للبرميل في حين بلغ السعر المرجعي الاكثر تداولا أي مزيج خام برنت 115 دولارا للبرميل بزيادة قدرها 25 نقطة مئوية، وهو الأعلى له منذ ما يزيد على تسعة أشهر.
بيد أنه لا بد لنا من التشديد على ان إنتاج النفط العراقي وصادراته تتركز جلها في جنوب البلاد لا سيما في محافظة البصرة حيث الحقول المنتجة العملاقة (الرميلة والقرنة والزبير) التي لا يزال تتمتع بدرجة عالية من الاستقرار، إذ لم تشهد اي توقف ذي شأن بل إن موانئها وأرصفتها البحرية تصدر يوميا اكثر من 2.2 مليون برميل او ما يعادل 80 % من إجمالي صادراتها.
إن ما يثير قلق المراقبين هو التوقف الكلي المفاجئ للإنتاج لا سيما أن حقول الشمال (كركوك) ذات طاقة إنتاجية تصل الى 400 الف برميل يوميا والتي تصدر للخارج عبر ميناء جيهان التركي متوقفة حاليا عن العمل بسبب الاعمال التخريبية التي طالت العديد من مرافقها. وتخضع محافظة كركوك اليوم لسيطرة “قوات البشمركة” الكردية بعد انسحاب الجيش العراقي منها، وكما هو معروف فإن محافظة كركوك تعد من المناطق المتنازع عليها وهي بانتظار عودة المهجرين إليها انتظارا للتطبيع ما يمهد للتعداد السكاني ومن ثم الاستفتاء والذي سيقرر مصير المحافظة وفقا للمادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية. الى ذلك تمكن الاكراد مؤخرا من ربط صادراتهم بانبوب النفط التركي – دون الحاجة للمرور بانبوب النفط العراقي – وصولا الى ميناء جيهان على ساحل البحر المتوسط بعد ان كانت وسيلتهم الوحيدة للتصدير هي الصهاريج. وقد اثار هذا التصرف حفيظة الحكومة الاتحادية في بغداد والتي ترى ان تصدير النفط يقع ضمن صلاحياتها الحصرية وفق الدستور.
وفي حال توقف الإنتاج العراقي كليا – وفق أحد السيناريوهات المتداولة – سيعني ذلك فقدان الأسواق لكميات من النفط الخام يصعب تداركها لا سيما مع التوقف شبه التام للإنتاج الليبي ناهيك عن مشاكل الإنتاج في نيجيريا المنتج الأكبر للنفط في القارة السوداء – والتي تعاني هي الأخرى من حركة تمرد لمتشددين إسلاميين ” بوكو حرام ” – وفنزويلا. وفي هذه الحالة ستلقى المسؤولية على عاتق الدول النفطية الخليجية وبالذات السعودية والكويت ودولة الإمارات لما تتمتع به من طاقات إنتاجية فائضة Spare capacity بما يمكنها من تعويض النقص في الإمدادات في فترة زمنية قصيرة. ومن الخيارات الأخرى المتاحة هو اللجوء الى مخزون الطوارئ للدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية IEA بما في ذلك تفعيل الولايات المتحدة لمخزونها الاستراتيجي والذي يعد الأكبر عالميا عند 700 مليون برميل.
نخلص مما ورد إن محاولة سبر أغوار أسواق الطاقة والتنبؤ بمسارها المستقبلي يبقى “عصيا” على التكهن وهي تحاكي الى درجة كبيرة ما يعرف بنظرية الألعاب GamesTheory في علم الإدارة ، لا سيما وان السوق اليوم تمر بما يعرف في ادبيات الطاقة بحالة التراجع backwardation التي تكون فيها الأسعار الآنية Spot اعلى من الاسعار المستقبلية Futures وهو ما يدفع المتعاملين فيها الى السحب من المخزون inventories بخلاف حالة الـ contango التي طبعت الاسواق في سنوات ماضية خلت، حيث تكون فيها الاسعار المستقبلية اعلى من السعر الآني ما يشجع على بناء المخزونات بانتظار ارتفاع الاسعار من جديد.
ان الضبابية التي تلف المشهد العراقي في ظل غياب الاجماع الوطني بما يفضي الى تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كافة الاطياف والاثنيات المتصارعة تحت خيمة المواطنة وبانتظار “طائف جديد” للم شمل الفرقاء المتخاصمين، ستبقى اسواق النفط عرضة للتقلبات الحادة لا سيما بعد اقتراب “داعش” من المراكز النفطية الرئيسية في الشرق الاوسط، ما قد يعرض التدفق الآمن للامدادات للخطر.
هذا ويصب التطور الاخير والمتمثل في احتلال “داعش” للمعابر الحدودية بما فيها معبر “طريبيل” الحدودي والذي يبعد 350كم شرق العاصمة الاردنية عمان – ليعزز من الهواجس عن مدى سلامة الامدادات، وهو أمر قد تكون له تداعيات لاتحمد عقباها على الاقتصاد الاردني الذي تربطة بالعراق اتفاقية لتصدير 10 الى 15 ألف برميل يومياً أو ما يعادل 10 % من الاستهلاك الاجمالي للملكة وبأسعار تفضيلية – إذ سيترتب على ذلك توقف عبور الصهاريج ما يجعل المملكة تعتمد بالكامل على الجارة المملكة العربية السعودية لتلبية حاجاتها النفطية، وبأسعار السوق العالمية، ماسيفاقم من العجز في الحساب الجاري من ميزان المدفوعات. وهناك خشية من أن تؤدي هذه التطورات إلى إعادة النظر في المشروع النفطي الاستراتيجي المزمع إنشاؤه لربط البلدين بشبكة أنابيب تنطلق من البصرة مروراً بمدينة “الحديثة” التي تقع حالياً تحت سيطرة متمردي داعش – وصولاً إلى ميناء العقبة على البحر الأحمر.
والخلاصة: إن ما يحصل اليوم في العراق من أحداث هو تحدٍ “وجودي” يهدد بانفراط عقده وانفراط عقد المنطقة برمتها.